القائمة الرئيسية


التربية بمجرد الحب

8 نوفمبر, 2021

  • شارك

 

د. مها الجريس

 

 

يعرف علماء الاجتماع التماسك الأسري بأنه: “صلة الربط الوثيقة بين أفراد الأسرة بدءاً من الزوجين وبينهم وبين الأبناء، لينشأ عن ذلك تواصل ومودة ورحمة وإحسان”([1]) كما يمكن تعريف التماسك الأسري “بالتفاعل الإيجابي بين أفراد الأسرة والروابط العاطفية التي تجذب بعضهم ببعض”([2])، ولهذا اقترن بالإشباع العاطفي، الذي يفهمه كثير من الناس على ير حقيقته فيظنونه مجرد الحب والحضن والتقبيل، والثناء اللفظي وهذا كله -على أهميته- لا يكفي، بل إن أعظم ما يحقق هذا الإشباع  في محيط الأسرة هو قضاء أوقات كافية فيما بينهم بالإضافة إلى ثقة كل فرد بالآخر، وهذا ما كان يمارس بالسليقة والفطرة في الأجيال السابقة دون مزيد تكلف من طقوس الحب! وليس سرّاً أن نقول إن الجيل الحالي – جيل الألفية الثالثة- يتصف بالحساسية الشديدة والهشاشة المفرطة([3]) والنزوع إلى الفردية، ومشاركة العالم الافتراضي لا الحقيقي في الكثير من أمور الحياة، وبالتالي فهو محتاج وبشدة إلى الإشباع العاطفي الحقيقي في محيط الأسرة، وليس المقصود بالإشباع العاطفي هو إغداق الحب فقط أو التدليل الزائد للأبناء؛ وإنما هم بحاجة للإشباع العاطفي الملائم لكل موقف ولكل مرحله فلا تربية بالحب وحده، فالحزم والاحتواء، والقرب، وإظهار الخوف على الأبناء كلها عواطف فطرية ومن الحاجات الغريزية للإنسان وهو بحاجة لأن يحيا بها ويراها من أهله وأسرته ومن حوله.  وعلى أهمية التربية بالحب، إلا أن الحب وحده لا يكفي، بل لا بد معه من الحزم، والعدل، والإلزام بحمل المسئولية، والمحاسبة والمتابعة التي تعلّم الانضباط، وهذا كله هو ما يبني التوازن العاطفي الذي يحقق للأجيال نفسية سليمة متوازنة قادرة على الصمود في وجه الحياة وغير قابلة للتبعثر والتحطيم عند أدنى موقف! وفي الحديث الذي حسنه الألباني عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يعلم مبدأ التوازن العاطفي وعدم الاندفاع، وذلك في قوله: (أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما…الحديث)

إن إكساب الأبناء شخصية متوازنة ذات اعتدال نفسي، وانضباط عاطفي، لا يأتي إلا من خلال الممارسة التربوية ذات التطبيق الكافي لهذا المبدأ، فلا حاجة لسيل من المديح والعبارات التي تنفخ الغرور في الصبي أو الصبية لأجل قيامهم بعمل صائب أو مستحسن، بل يكتفى بالثناء المتوازن وعبارات الدعاء ليستقر في النفس ثقةٌ ممزوجة بالاكتفاء الذاتي، الذي يحميهم مستقبلاً من تسول العاطفة من الآخرين.

ولهذا فإن أبرز أسباب غياب هذا الإشباع العاطفي لدى كثير من الأسر هو انشغال الأبوين بالعمل خارج المنزل لأوقات طويلة أو الحضور جسداً مع الانشغال بالترفيه أو العكوف على وسائل التواصل الاجتماعي، إضافةً إلى اعتماد كثير من الأسر على العاملات غير المؤهلات في تربية الأبناء والعناية بهم، وهذه القضية أيضاً مما كتب فيه الكثير من البحوث وأجريت فيه العديد من الدراسات الميدانية، بل برزت بعض القضايا الحساسة في بعض الأوقات، وهي تعنيف الخدم للأطفال وتسربت التسجيلات والقصص للعديد من الأطفال الذين كانوا ضحايا لهذا النوع من الإهمال، وانتشرت لأعين الناس في وسائل التواصل الاجتماعي!

وصدق أحمد شوقي -رحمه الله- عندما قال:

ليس اليتيم من انتهى أبواه من     همّ الحياة وخلفاه ذليـــلا

إن اليتيم هو الذي تلقــــــــى له      أمًّا تخلّت أو أبًا مشغولا

ولقد أكد كثير من الدراسات أن غالب الجانحين يأتون من بيوت مفككة، وأن هناك علاقة واضحة بين الوضع العائلي المضطرب وجنوح الأحداث، فالشباب لا يتكلفون من تلقاء أنفسهم الأزمات والمشكلات، إنما يعكسون بسلوكهم تأثير البيئة الاجتماعية من حولهم، فليست مرحلة البلوغ بالضرورة مرحلة عواصف واضطرابات نفسية، فليس هناك علاقة بين البلوغ والانحراف، إنما تنشأ العلاقة بينهما عندما تفقد البيئة دورها التربوي، فتهيئ للبالغين المندفعين أسباب الانحراف،([4]) ولهذا فإن الإشباع العاطفي والتماسك الأسري هو الملاذ الآمن للأبناء في ظل الأسرة، وهو الحصن الذي يؤوبون إليه في أوقات الأزمات، والحضن الذي يهربون إليه كلما أخافتهم الحياة. وهو ما يصنع إنسانا سويًا مطمئناً هادئًا مستقرًا مرتاحًا، يحس بالأمن، ذا شخصية متوازنة قانعة محبة للآخرين، قادرة على التكيف مع الحياة، مبدعة لا تشعر بالاغتراب الاجتماعي. ولا بد للآباء أن يدركوا كيفية تحقيق هذه الحاجة لأبنائهم في مختلف مراحلهم العمرية وليس فقط في مرحلة الطفولة، لأن غياب هذا الإشباع العاطفي بوابة للانحراف وتذكرة عبور نحو الاضطرابات النفسية الأخرى، ولهذا نجد أن حديث النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الصدد يجعل هذه الرعاية أمانة ومسئولية أمام الله كما جاء في الحديث الشريف (أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْؤولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ، وَهِيَ مَسْؤولَةٌ عَنْهُمْ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْؤولٌ عَنْهُ، أَلَا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ) ([5]).

 

 

 

([1]) براءة صالح كوشك، صراع الأجيال وتأثيره على التماسك الأسري، رسالة ماجستير، ص:18.

([2]) حمدي علي أحمد، محاضرات في علم اجتماع الأسرة، ص:22.

([3]) للاستزادة: أنظر: الهشاشة النفسية لماذا أصبحنا أضعف وأكثر عرضة للكسر، إسماعيل عرفه، مركز دلائل. وانظر: العيش كصورة، كيف يجعلنا الفيسبوك أكثر تعاسة، طوني صغبيني، منشور على الإنترنت. مدونة نيناز، 2012م.

([4]) عدنان باحارث، موقع الدكتور للتربية الإسلامية على شبكة الانترنت.

([5]) أخرجه البخاري حديث رقم 2554 .

اشترك في نشرتنا البريدية