أ.سيدة محمود [1]
الأمر الذي لامراء فيه أن “المفاهيم” هي ساحة المعركة الحقيقية الدائرة الآن ليس بين الشرق والغرب، أو الشمال والجنوب، أو العالم الأول والعالم الثالث، وإنما بين أقلية تحوي تصنيفات عدة اتفقت مصالحهم وتمكنوا من تسخير المال والعلم والسياسة للتنظير لإيديولوجيات يقدموها كمسلمات، وغالبية من الشعوب نقية الفطرة يُراد لهم استهلاك هذه الفرضيات وتبنيها كحقائق وإلا صاروا تقليدين نمطيين.
ويُعد مفهوم “الجندر” أسوء المفاهيم التي أنتجتها الحداثة على مدى خمسة قرونٍ وأخطرها على الإطلاق. وهو ليس مجرد لفظة، وإنما هو منظومة فلسفية متكاملة من القيم استهلكت مساحة واسعةً جداً من الجدل، وهو على خلاف الأعراف البحثية والعلمية، التي تواطأ العلماء على وضع التعريفات والبناء عليها، وما ذاك إلا لتعدّد تعريفاته -حسب المنظور الفلسفي الذي يتناوله- والغموض الذي يرافق تنظيراته الاصطلاحية، من دون أن يتوصّل الباحثون إلى تقديم تعريفٍ جامعٍ له، صار المفهوم مصدر عدمِ استقرارٍ أكثرَ مما هو موضع اتفاقٍ،“فحين استخدم الجندر لتحديد الاختلافات بين الرجال والنساء، فإن كلمات مثل ازدواج الجنوسة أو امتزاج الجنوسة تشكك في تلك الخلافات والاختلافات[2]“. فضلاً عن وجود صراع قوي بين التيارات النسوية حول المفهوم بما حدا بالكثيرات منهن إلى العزوف عن محاولة تعريفه لأن هذا سيخلق أزمة كما سيتضح بعد قليل.
لن نسهب في هذا المقال في التعريفات التي تناولت المفهوم والفرق بينه وبين الجنس، فهذا تناولناه قبلاً على هذا الرابط[3]. ويمكن الإشارة فقط هنا إلى هذا التعريف للإستئناس به في ثنايا المقال بأن الجندر «يرجع إلى الخصائص المتعلّقة بالرجال والنساء والتي تتشكّل اجتماعياً مقابل الخصائص التي تتأسّس بيولوجياً مثل الإنجاب[4]“.
وإنما سوف نستكمل حديثنا بإثارة عدد من التساؤلات، لنشرع بعد ذلك في تقديم رؤية نقدية للمفهوم وذلك بتفكيكه من الداخل عبر العودة إلى مصادره كي نعلم إلى أي مدي يعكس خصوصية منشئه ولظروف تتعلق بمن يحاول ترسيخه. وذلك حتى لا نتذرع عند مواجهته بخصوصية مجتمعاتنا العربية والإسلامية، بل إن المفهوم هو الذي يتسم بالخصوصية مقابل عمومية القيم الإنسانية والفطرة السليمة.
ولنثير أولاً عدد من التساؤلات:
س/هل النسويات هن أول من أطلق هذا المفهوم؟
على العكس تماماً كان الرجل هو من تناوله بدءًا من خمسينيات القرن العشرين في مجال علم الفسيولوجيا وعلم النفس، حيث اُستخدم مصطلح “الجندر” كطريقة لتحديد إحساس المريض بذاته أو بذاتها كرجل أو امرأة، على يد الأوائل روبرت ج. ستولر في كتابه (الجنس والجندر) عام 1968م. وطوره جون موني في كتابه «Man & Woman, Boy & Girl »، لتجد النسويات ضالتهن المنشودة لينسجن على منوال هذه الكتابات مفهوم الجندر. وتعد كيت ميليت على رأس القائمة، في كتابها (السياسة الجنسية)عام 1970م – أحد النصوص المؤسسة للموجة النسوية الثانية – إذ اعتمدت على عمل ستولر لإثبات حجتها أن “الذكر والأنثى هما في الواقع ثقافتان”. وكذلك آن أوكلي عام 1972م لتشير إلى المفهوم بالمعنى التالي: “تحيل كلمة جنس على الفوارق البيولوجية بين الذكور والإناث، وإلى الفرق الظاهر بين الأعضاء الجنسية، وكدا إلى الفروق في ارتباطها بوظيفىة الإنجاب. أما الجندر فإنه معطى ثقافي، فهو يحيل إلى التصنيف الإجتماعي وترتيبه للمذكر والمؤنث[5]“.
ولا حرج بطبيعة الحال في ارتكاز النسوية على تنظير ستولر وموني وغيرهم -مع التحفظ على كثير من مقولاتهم التي تناقض الفطرة السوية بل وحقائق العلم- ولكن أليس هولاء ذكور!! ألا يدحض هذا المقولة النسوية التي تتسربل دائما بثوب الضحية وأن العلم ذكوري، والتاريخ ذكوري لا يذكر إلا أعمال الرجال و…؟ هاهو الحاضر وبإعتراف الكثيرات منهن أنهن إعتمدن في التنظير على أعمال ستولر وبورديو وميشيل فوكو وجاك دريدا وغيرهم كثيرون.
ولكن يظل الشئ الذي تم الإتفاق بشأنه أن “الحركة النسوية هى المحرك الأساسي لتغلغل هذا المفهوم في العلوم الإنسانية والإجتماعية بعد أن تبنته كعاملٍ تحليليٍّ يكشف الفرضيات المتحيزة المسبقة في فكر الثقافة عمومًا، والغربية خصوصًا[6]“.
س/ هل ثمة رابط بين الجندر والشذوذ؟
وُلد مفهوم الجندر أساساً من رحم الشذوذ، فأول الكتابات التي رسخت المفهوم في الدراسات النسوية وهو كتاب ستولر المذكور أعلاه، كانت نقطة الإنطلاق فيه دراسة التكوين النفسي لحالة امرأة شاذة كانت ضمن أوراق عمل فرويد. ثم أسهب ستولر من خلال كتابه في شرح الفرق بين العوامل الاجتماعية والنفسية للأنوثة والذكورة في المجتمعات، وبين العوامل البيولوجية الطبيعية للفروق الجنسية التي خُلقت مع الأفراد في سياق عمله مع الأشخاص الذين صُنِّفوا كمتحولين جنسيًّا. ليشير في النهاية إلى دور التنشئة وبيئة الطفل في شعور الطفل بهويته وقد استخدم مصطلح “الهوية الجندريةgender identity [7]“.
كما ذكرت جوديث بتلر في تصديرها للطبعة الثانية من كتابها (مشكلة الجندر) بأن تناولها للمفهوم يُعد واحدًا من النصوص التأسيسية لنظرية الشذوذ[8]، كما صرح فاليري ريموند: “من خلال عدسة الجندر يصبح تحدينا أكبر بتنوع وضع المرأة بما فيه ميولها الجنسية، فكلمة الميول الجنسية تعني أن هناك أكثر من هوية جنسية، فالأمر غير محدود بالميل الطبيعي بين الرجل والمرأة، ولكن هناك هويات أخرى مما يفتح الباب لشرعة المثلية الجنسية، لمن لا تتبع ميولهم لا الذكورة ولا الأنوثة” [9].
س/ هل يلغي الجندر التمايز؟
يرفض أنصار الجندر التمايز الذي وضعه الخالق بين الذكر والأنثى، فهو برأيهم ركيزة الهرمية والتراتبية؛ أي فوقية الرجل ودونية المرأة. وقد وجدوا ضالتهم المنشودة في مفهوم الجندر، الذي برأيهم يلغي هذا التمايز فالدور يتم إسناده لأي منهما بغض النظر عن الفوارق البيولوجية.
أما دار بخلد هولاء أن الخطأ لايكمن في التمايز البيولوجي بحد ذاته، وأن مصلحة البشرية تكمن في تكريس هذا التمايز وليس غض الطرف عنه أو محاربته؟ إن الخطأ الأعظم كان في النظرة للدور، فإن كان حظ المرأة الغربية الاحتقار والدونية في التراث الإغريقي، بل وعصر تنويرهم وعصر حداثتهم وما بعد حداثتهم، فما ذنب سائر المجتمعات التي لم تتعرض المرأة فيها لهذه الدونية، بل كانت النظرة “النساء شقائق الرجال”؟!
إذن بدلاً من توجيه الاتهام للتمايز البيولوجي، على الغرب مراجعة نظرته للمرأة.
فضلاً عن أن أنصار الجندر أرادوا الفرار من (التمايز) فاتجهوا صوب ترسيخه بشكل آخر. فها هي المؤرخة جوان سكوت في مقالها (الجندر: فئة مفيدة للتحليل التاريخي) أوضحت أن “الجندر يمكن أن يعمل بعدة طرق. لأن الجندر يعني التمايز، فيمكن استخدامه للتمييز بين الأفضل والأسوأ، والأكثر أهمية والأقل أهمية”[10].
س/ لماذا يثير مفهوم الجندر أزمة لدى الحركة النسوية؟
يعاني مفهوم الجندر اضطراباً مفاهيمياً منذ ولادته إلى يومنا الحالي وبخاصة في الدراسات النسوية، فثمة أزمة مفاهيمية بشأنه. فلا يوجد ما يومئ إلى اجماعٍ ثقافيٍّ واضحٍ في التفكير النسوي حول ماهية الجندر، ووظيفته، وإطاره التمثيلي. وقد اعتمدَت النسويات في بادئ الأمر على الفروق بين الجنسين بوصفها بيولوجية، وعلى الجندر بوصفه ثقافيًّا؛ لتجادل بأن دونية النساء ترجع لعامل ثقافي وليس حتمي. ولكن في بداية القرن الواحد والعشرين، صار “الجندر” يحل محل “الجنس” في النظرية النسوية.
والأخطر – من المنظور النسوي- أنه في إطار الجندر ضاعت المرأة، فعلى سبيل المثال كانت ثمة محاولات لإبراز دور المرأة في التاريخ، لكن مع تحول التاريخ لتاريخ الجندر”يبدو الأمر وكأنه طريقة معادة لنقل تاريخ المرأة إلى الصف الخلفي” على حد قول بوني سميث بل “قوضت نظرية الجندر الصورة الايجابية المستقلة للمرأة. ففي حين كافح تاريخ النساء لتحرير رصيد النساء من تاريخ الأسرة والرجال، بدت نظرية الجندر وكأنها تنحو بهن إلى المنحى “العلائقي” الذي منحهن المؤرخون إياه عمومًا[11]“.
كذلك بينما تحاول بعض النسويات قصر مفهوم الجندر على الأدوار الاجتماعية للذكورة والأنوثة وتحاول ألا تلصق به الشذوذ، فإن تياراً آخر يرى أن هذا يناقض المفهوم ويضربه في العمق؛ حيث إن المفهوم يُفترض به ألا يكون إقصائيًا. وكما تقول جوديث بتلر: “أيَّ نظرية نسوية تحصر معنى الجندر في المفترضات التي تحكم ممارسته الخاصة، هي تضع المعايير الإقصائية للجندر في صلب النزعة النسوية، وغالبًا ما يؤدي ذلك إلى مخاوف من المثليين homophobic. إنَّ الحركة النسوية يجب أن تكون حريصة على ألاَّ تؤمثل بعض تعابير الجندر التي من شأنها، هي بدورها، أن تنتج أشكالاً جديدة من التراتب والإقصاء”[12].
ثانياً: رؤية نقدية لمفهوم الجندر:
• أولاً: المسلمات العقلية:
أبرز خطأ وقعت فيه فلسفة (الجندر) القيام بالفصل القاطع بين الإنسان وطبائعه الخَلقية البيولوجية والسيكولوجية، فالعبث بالطبيعة ومحاربة الفطرة لن يأت بخير، ويُعد مغامرة غير محسوبة المآلات وبالنهاية سيُرد الإنسان على أعقابه خاسرًاً.
أيضاً، خطأ النظر للتنوع الجنسي على أنه شيء سلبي، فالتمايز الجنسي إنما هو للتكامل ومدعاة للتعاون، وليس للصراع حول الأفضلية والدونية. تمايز الرجل عن المرأة هو تنويعٌ حكيمٌ هادفٌ لا تمييزٌ ظالمٌ يحابي أحدَ الجنسين على حساب الآخر، ولا يترتّب على هذا التمايز أيّ أثرٍ قيميٍّ، أو أخلاقيّ.
اشتراك المرأة والرجل في الهويّة والمقام والمنزلة بل والأصول القانونيّة الكليّة، لا يمنع من اختلاف التفاصيل المرتبطة بكلٍّ منهما. هذه الحقوق والتكاليف المختلفة ليس لها بعدٌ قيميٌّ، ولا تؤدّي بأيّ وجهٍ إلى رفعة المرأة أو الرجل أو دناءة مقامهما، ولا تؤدّي بالتالي إلى تقسيم النوع الإنسانيّ إلى مرتبتين.
وكذلك الفصل بين المساواة والعدالة فالمساواة بين غير المتماثلين ينافي العدالة. وإن دعوة أصحاب الجندر للتماثل لايلبي احتياجات المرأة، فالمرأة السوية تبحث عن الرجل الذي يلبي حاجاتها الإنسانية، ويلبي ميولها الطبيعية وفق ما تحبه من طبيعته، وليس وفق ما قد يطالبه به البعض من تماثل، بل إنها تنأى عنه إذا ما تماثل معها.
• ثانياً: البعد الإنساني:
والذي يشترك فيه البشر أيًا كانت بقعتهم الجغرافية.
1- إعادة تعريف الطبيعة البشرية:
مع الجندر تصير الحتمية البيولوجية التي تحدد للإنسان هويته ذكرًاً أو أنثى هراءً وأنماطًا تقليدية. فلا وجود لما يسمى بالجبلة التي خُلق كلا من الذكر والأنثى عليها، وإنما المجتمع هو الذي يصنع من الإنسان، ذكرا كان أم أنثى، ما يتفق مع مفاهيمه وتوقعاته، وطبقا لمعايير ومصالح الفئة صاحبة السلطة والسيادة[13]. فجنس الإنسان يُكْتَسَب اكتسابًا[14]، والطبيعة البشرية مرنة مطواعة تخضع لما يُشكله[15]. فلا وجود لشيء يسمى الطبيعة البشرية، فالإنسان يستطيع ويملك الحق في تبديل هويته الجنسية كما يبدل ملابسه.
وهكذا تحول الأمر مع الجندر، بعد أن كان نموذج الرجل هو المعيارالذي أردت النسوية في بادئ الأمر الذوبان فيه، تجاوزن الحد لعدم ثبات الهوية برمتها والتشكيك في كلتا الهويتين أو ما يسمى بـ “الحتمية الثنائية البيولوجية”، وطالبن بفتح الأبواب لأنواع جديدة، بدعوى التغيير والانفتاح على هويات أخرى أو ما اطلقن عليه ” الجندر المتعدد”[16].
2- إعادة تعريف المرأة:
في بادئ الأمر لم تسقط التيارات النسويّة التي انخرطت في الصراع السياسي الاجتماعي، الوجه البيولوجي من خطابها، لكن شيئاً فشيئًا على حد قول عبد الوهاب المسيري أن: “المرأة في الفكر النسوي تمركزت حول ذاتها تود اكتشاف ذاتها وتحقيقها، مما جعلها تُجري عملية تفكيك تدريجية لمقولة “المرأة” كما تم تعريفها عبر التاريخ الإنساني، وفي إطار المرجعية الإنسانية لتحل محلها مقولة جديدة تماماً تسمى “المرأة” أيضاً لكنها مختلفة في جوهرها عن سابقتها، ومن ثم طرحن برنامجاً ثوريا يدعو إلى إعادة صياغة كل شيء: التاريخ واللغة بل الطبيعة البشرية ذاتها”[17].
وهكذا تحول الأمر من العناية بقضايا المرأة وحقوقها البديهيّة إلى التركيز المكثّف على «الجندر». وقد جاء أضرارهذا التحول فادحاً ً حتّى على المرأة نفسها. المفارقة في التنظير الجندري أنّه جاء في الغالب الأعم في سياق رؤيةٍ مضطربةٍ، دفعت مشكلات المرأة نحو مسارٍ لا مستقرّ له، كالفكرة الكارثية التي اقترحتها كيت بورنشتاين Kate Bornstein، والمتمثلة في أنَّ كائنًا متحوِّلاً جنسيًّا.
a transsexual لا يمكن أن يوصَف بواسطة اسم “امرأة” أو “رجل”، بل ينبغي أن تتم مقاربته عبر أفعال مضارعة تشهد على التحوُّل المستمر الذي “هو” الهوية الجديدة أو في واقع الأمر، “حالة البين- البين” in-betweenness التي من شأنها أن تضع كينونة الكائن المُجندَر gendered موضع سؤال؟ أي صار لا يمت بصلة للمرأة أو للرجل بما يدعو للتساؤل حول ماهيته!!
3- تعرض البشرية للإنقراض:
ثمة أصوات عقلانية تقوم بجرد حساب الحركات النسوية، وتتساءل هل كان لا بد من التحرر والمساواة حتى يصبح المجتمع خصوصاً الأوروبي عرضة للمهددات الديمغرافية؟! ومرهق بمشكلات الإدمان، وحمل الصغيرات، وازدياد العنف في البيوت والمدارس والنوادي وأماكن العمل؟! وتعج شبكة المعلومات الدولية بالأبحاث التي تتحدث عن الخطر الهائل الذي يتهدد البشرية إذا ما نحت ذات المنحى الغربي في نضوب منابع “الوالدية” بها، نتيجة لللإباحية المطلقة، والإسراف في عمليات الاقتران غير الشرعي، وظاهرة اللقطاء، واستعمال حبوب منع الحمل، فضلاً عن انصراف المرأة الغربية عن الأمومة وتزيين العمل لها كسبيل أوحد للحياة. فقد راجت هناك الكتابات النسوية التي تحض النساء على أن مساهمتهن في المجتمع أو تحقيق اكتفاء ذاتي أكبر، يكون ببقائهن في أعمالهن، بدلاً من البقاء في البيوت مع الأطفال، وأن المرأة شيءٌ مهملٌ إذا كانت أماً أو ربة بيت.
ويُعد شيوع التوجهات المثلية هوالكارثة الأكبر في صور الفوضى الأخلاقية في هذه المجتمعات، وبخاصة في المجتمعات قليلة السكان، مايمكن أن يؤدي مع الوقت إلى انقراض فعلي لها، ولا يمكن تخيل المشهد المأساوي إذا جر الغرب العالم وراءه إلى هذه الهوة السحيقة.
• ثالثا: البعد المرجعي لنشأة الجندر:
كذب من زعم أن مفهوم الجندر غربي الشكل عربي الجوهر والملامح، فالمفهوم غربي الشكل والجوهر أُنتج في سياق الهيمنة الغربية. غير أن البعض ممن استهوته حضارة الغرب المادية أراد البحث عن بطاقة انتساب له داخل الثقافة العربية؛ أملاً في ترويجه لكن هيهات. نظرة تاريخية تحليلية لنشأة المفهوم تجعل له خصوصية لا يتحتم تعميمها على سائر المجتمعات. اللهم إلا إذا استقلت قطار العولمة. فضلاً عن أن كثير ممن أسس لهذا المفهوم تراجع عن أقكاره مثبتاً خطأ الفرضيات التي استند عليها، غير أنه لغرض في نفس أصحاب المصلحة في انشار وتكريس المفهوم يتم التعمية على هذه المراجعات، وسوف نسلط الضوء على أبرز الرواد:
1- المصادر الأنثربولوجية (علم دراسة الإنسان):
تكمن خلفية هذا المفهوم في أبحاث ما بعد الحرب العالمية الأولى. خصوصًا دراسات مارجريت ميد عالمة الأنثربولوجي الشهيرة (Margaret Mead) الأكثر مبيعًا بلوغ سن الرشد في ساموا (Coming of Age in Samoa) الصادر عام 1928م، والتي رصدت فيه كثير من الأدوار في مهام الرجال والنساء في المجتمعات المختلفة. عير أن ميد تراجعت في نهاية حياتها الميدانية عن كثير من آرائها، وتوصلت إلى حقيقة تحاول النسويات إنكارها وتبحث عن تفسيرات غير منطقية لتبريرها فتقول: “إن كافة الادعاءات عن وجود مجتمعات كانت تتمتع المرأة فيها بالسيادة باطلة، لا أساس لها من الصحة. ففي كل عهود التاريخ كان الرجل يتمتع بالسيادة في الشئون العامة، وكان يمتلك السلطة المطلقة للبت في شئون البيت”[18]، وبطبيعة الحال وضعت ميد نفسها في مرمى النيران النسوية وبخاصة هجوم بيتي فريدان رائدة الموجة النسوية الثانية قائلة: “كيف وأنها أنثربولوجية تصل بعد دراسة المجتمعات إلى خلاصة تضعها في صفوف علماء الاجتماع الوظيفيين في توكيدهم على عيش حيواتنا ضمن إطار التحديدات الثقافية التقليدية للأدوار المذكرة والمؤنثة”، كما أن مرجريت ميد برأي فريدان أسهمت بشكل غير مباشر في تكريس دور ربة المنزل حين نقلت تجارب المجتمعات البدائية للمجتمع الغربي الأوروبي والأمريكي، فحسدن المرأة البدائية في اعتزازها بأنوثتها وفخرها بدورها في الإنجاب، ومن ثم راقت للغربيات الأمومة وعلى حد قولها “أصبح الإنجاب ديناً لدرجة استبعاد كل نوع آخر من السعي الإبداعي”[19].
2- المصادر الطبية:
ارتكزت النسويات على ماطرحه الدكتور «جون مونِي John Money»، من جامعة جون هوبكنز في «بالتيمور» بالولايات المتحدة، والذي كان يرى أن الهوية الجنسية لكل إنسان تتوقف على ما نُشِّأ عليه وهو طفل، وتلك هوية يمكن أن تختلف عن جنسه البيولوجي، بل كان يعتقد بإمكان تحويل جنس الطفل لاسيَّما إن كان ممَّن وُلدوا بأعضاء تناسلية مُلْتَبِسَة. وقد واتَتْهُ فرصة ذهبية عندما راجعه والِدَا توأمَينِ ذَكَرَيْنِ متماثلَينِ؛ لأن أحد التوأمين قد اقتُطِعَ جزء من عضوه الذكري أثناء عملية ختان غير ناجحة، فنصحهما بخِصَائه وتنشئته على أنه فتاة. وقد سَمَحَ له ذلك بأن يقارن بين التوأم الذي نُشِّئ على أنه ذكر، والتوأم الذي نُشِّئ على أنه أنثى. ولم يلبث أن سجَّل في كتابه «Man & Woman, Boy & Girl» كيف [20] كان تبديل جنس الغلام ناجحًا، وكيف تقبَّل بسهولة هويته الجنسية الجديدة، علمًا بأن الأمر قد بقى سرًّا مكتومًا عن التوأمَيْنِ.
الحقائق التي تكشَّفتْ بعد ذلك في قصة التوأمين وأعلنها الدكتور «ميلتون دياموند Milton Diamond» وهو باحث معروف في مجال تأثير هرمون التستوستيرون على تركيبة الدماغ أن التجربة قد انتهت إلى خيبة مطلقة! إذ لم يستطع هذا التوأم أن ينسجم مع كونه أنثى على الإطلاق، دون أن يعرف السبب، حتى إذا ما بلغ سن الرابعة عشرة حاول الانتحار. وقد نصح هذا الباحث والدي «الغلام/الفتاة» أن يُعلِماه بالحقيقة، وسرعان ما استقرت نفسية الفتى بمجرد علمه بما حدث، وصمم على أن يعود إلى ذكورته، وخضع إلى جراحة تصحيحية بالغة الصعوبة والتعقيد، فارتدَّ غُلامًا، ولم يلبث أن تزوج، وانتهى ذلك الكابوس إلى غير رجعة[21] .
3- أما عن المصدر الفلسفي:
والذي وضعت فيه حجر الأساس الكاتبة الفرنسية سيمون دي بوفوار صاحبة المقولة الأشهر “لا تولد المرأة امرأة بل تصير امرأة” نجد أن ثمة عوامل عديدة تفسر سبب جنوح دي بوفوار عن الفطرة السليمة، ورغبتها القوية في التنكر للأنوثة وتقمص الذكورة، وسعيها الحثيث لتنظير لهذا الجنوح:
– معرفتها بفيلسوف الوجودية “جان بول سارتر”، حيث تعرفت عليه في أوّل العشرينات من عمرها، وارتبطت به في علاقة أكثر من خمسين سنة دون زواج أو تأسيس أسرة، بل تتخللها مغامرات عابرة لكليهما، ومحاولات دؤوبة منها لتأكيد أنها تماثله[22] ..
– القارئ لكتابات دي بوفوار لن يجهد كثيراً في تلمس فخر دي بوفوار بالشق الذكوري في شخصيتها، والكلمة التي كان والدها يرددها دائماً على مسامعها بأن “لها عقل ذكر” مع احتقار بالغ للجانب الأنثوي ولعل هذا سر “الحملة التي شنتها النسوية الفرنسية “ماري جوزيف” في كتابها “سيمون دي بوفوار والنساء” والتي اتهمت دي بوفوار بعدائها للنساء من خلال دراسة مطولة لأعمالها ومراسلاتها، ومهووسة بالوصول إلى المساواة مع الرجال عبر اللحاق بجنس الذكور، والتمتع بالذكورة المتفوقة، وترغب فقط بأن تصل هي إلى المساواة وليس الدفاع عن النهوض بالنساء”[23] .
– كتاباتها تطفح بكراهية غير عادية للزواج والأمومة، ووصف للدور البيولوجي للمرأة بأنه العقبة الكؤود في سبيل تحررها. وإن رأى البعض أن هذا رد فعل لأمنيات كانت تهفو إليها ولم تنلها فيقول أحدهم: “ورغم كتاباتها هذه فإن أفعالها وأقوالها كانت عكس ذلك، فقد كانت تشير دائمًا إلى لو أن سارتر أراد اطفالاً ، فستصير أماً من أجل إرضائه”[24] .
– إذا كان البعض – وبحسن نية – يتبنى مفهوم الجندر بأنه الدور في إطار المجتمع، فإن اتهام دي بوفوار بالشذوذ يكشف بجلاء عن المرمى الحقيقي لمقولتها الأشهر، والتي اتكأت عليها النسويات لتأصيل مفهوم الجندر. وقد وردت هذه الاتهامات من داخل موطنها من قِبل الفرنسية “ماري جوزيف” في كتابها سالف الذكر، في اتخاذ دي بوفوار مرجعية للنضال النسوي؛ لأنها برأيها امرأة شديدة التعقيد، حقودة في علاقاتها مع أمّهات الفتيات اللواتي كانت تستمتع بأجسادهن، وتتقاسمهن مع صديقها الفيلسوف جان بول سارتر، وتستعملهن بغرض إحكام قبضتها عليه. وفي ممارستها للشذوذ كان نوع من تقمص حال الذكر مع الأنثى، وكانت هي المسيطر المستبد بعشيقاتها من التلميذات[25].
• رابعاً: البعد الديني:
تكشف النصوص الإسلاميّة عامّةً والقرآن الكريم وصحيح السنة النبوية خاصّةً عن رؤيةٍ واضحةٍ إلى كلّ من الرجل والمرأة، مفادها اشتراكهما في الإنسانيّة وخصائصها ولوازمها، حيث إنّ الإنسان إنسانٌ بروحه لا بجسده، وفي عالم الروح لا أنوثة ولا ذكورة، فمن ناحية المبدأ، شمول الخطاب القرآني كله الموجه للرجال وللنساء، ما لم يرد دليل على خلاف ذلك، واختصاص المرأة بمزيد اهتمام، باختصاصها بكل ما وجه إليها من خطاب فى القرآن والسنة، فضلاً عن التأكيد على حق الأم ثلاثاً مقابل التأكيد على حق الأب مرة واحدة.
1- المساواة في التقوى والعقل والحكمة:
فالله يؤتي الحكمة من يشاء من الرجال والنساء على السواء. ولا دليل من قرآن ولا من سنة على اختصاص ذلك بالرجال. وحكمة ملكة سبأ فى التعامل مع سليمان وقيادة قومها إلي سبيل الرشاد، ومن بعدها حكمة أم سلمة في يوم صلح الحديبية، يغنيان عن التفصيل فى هذا المجال.
2- المساواة في أخوة النسب والإنسانية:
فالنساء شقائق الرجال، والجنس البشري ـ فى منظور الإسلام – واحد في المنشأ والمصير، وفي الحقوق والواجبات، كشطرين لنفس واحدة. وكلمة الزوج ذاتها تعني نصفين متكاملين يصنعان معاً شيئاً واحداً، مع اختلاف الوظيفة التناسلية لكل منهما. ومناط المساواة هنا هو: القيام بتبعات الأمانة الإنسانية.
3- المساواة في الأهلية الدينية:
نص القرآن الكريم على: التباعض بين المرأة والرجل، الناشئ من نفس واحدة خلق الله منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء، وعلى أن المرأة عليها ما على الرجل، ولها ما له، عدا قوامة الزوج على زوجته، وأن المرأة والرجل سواء فى التكليف الشرعي، وفي الأهلية للثواب والعقاب في الدنيا والآخرة.
الخلاصة:
كما أن موجات الإلحاد قد أعقبها موجات العودة للدين، فإن موجة ما بعد النسوية إن عاجلاً أو آجلاً ستضطر للعودة للمسلمّات الطبيعية المتعلقة بمركزية الأسرة، والتمايز التكاملي بين المرأة والرجل. إن الفطرة الإنسانية بيد الصانع المشرع عز وجل ولا خوف عليها، وسوف يُهزم كل من يحاول مصادمتها، وصدق الله العظيم: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾[26] .
شركة أوقاف مركز باحثات
[1] باحثة دكتوراه في العلاقات الدولية.
[2] لمزيد من التفاصيل، انظر: ديفيد غلوفر و كورا كابلا ن، الجندر، تر جمة عدنان حسن ، دمشق: دار الحوار،2018 .
[3] “الجنس لا الجندر” على هذا الرابط: https://bit.ly/358mNC6 .
[4] Significance of Gender: Theory and reserach about Difference, Blackswell Publishers, 1997, pp 122 – 125.
[5] رشيد لبيض، النوع الاجتماعي: مفهومه، نظرياته، وتمثلاته، الحوار المتمدن، العدد 4205، 4-9- 2013.
[6] سعد البازعي وميجان الرويلي: دليل الناقد الأدبي، المركز الثقافي العربي، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، سنة 2000 م، ص: 149.
[7] :Aurelia Armstrong, Michel Foucault: Feminism, available at
[8] جوديت بتلر، مشكلة الجندر، ترجمة: فتحي المسكيني، على هذا الرابط: https://bit.ly/3hKzd8d .
[9] عبد الرؤوف مشري، الجندر: إشكالية تماثل الأدوار في المجتمع الجزائري، مجلة جيل العلوم الإنسانية والإجتماعية، العدد 51، على هذا الرابط: https://bit.ly/2KSdXlh .
[10] بوني .ج سميث، ترجمة زينب صلاح ، على هذا الرابط: https://bit.ly/35a80GW .
[11] بوني .ج سميث، مرجع سبق ذكره.
[12] جوديت بتلر، مرجع سبق ذكره.
[13] هالة كمال، “النوع :الذكر والأنثى بين التمييز والاختلاف“ ، ترجمة محمد قدر عمارة، القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة 2005 ص 22، 23.
[14] Kate Millet, “Sexual Politics”,Avon Books: N.Y., 1971, p.54.
[15] محمد سيلا وعبد السلام بنعبد العالي،“الطبيعة والثقافة”، دفاتر فلسفية، نصوص مختارة 2 ، المغرب : دار توبقال للطباعة والنشر، 1991، ص 52-53.
[16] جوديث بتلر، “الجنس والجندر في الجنس الآخر لسيمون دي بوفوار”، ترجمة: لجين اليماني. مراجعة: أحمد العوفي، مارس 2016، عبر الرابط: https://bit.ly/3hHibIe، وأيضاً صوفيا فوكا وريبيكا رايت، “مابعد الحركة النسوية”، ترجمة جمال الجزيري، القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، المشروع القومي للترجمة، 2005.، ص 12.
[17] عبد الوهاب المسيري، “قضية المرأة بين التحرير ..والتمركز حول الأنثى” ، القاهرة : نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، ط 2- 2010، ص20:22.
[18] انظر: ستيفن غولد برغ، حتمية النظام الأبوي، في: وحيد الدين خان، “المرأة بين شريعة الإسلام وحضارة الغرب”، ترجمة سيد رئيس أحمد الندوي، مراجعة ظفر الإسلام خان، القاهرة: دار الصحوة للنشر والتوزيع ، 1414هـ – 1994م، ص37.
[19] لمزيد من التفاصيل، انظر: بيتي فريدان، اللغز الأنثوي، ترجمة عبد الله بديع فاضل، دمشق: الرحبة للنشر والتوزيع، 2014.
[20] John Mony & Anke Ehrhardt, Man & Woman, Boy & Girl. Johns Hopkins University Prss: Baltimore, Md. 1972.في: محمد هيثم الخياط، المرأة المسلمة وقضايا العصر، سفير الدولية للنشر، القاهرة، 2007، ص 80.
[21] المرجع السابق، ص 80 بتصرف.
[22] دياب منال، إشكالية الأنوثة في الفلسفة النسوية..سيمون دي بوفوار أنموذجا، رسالة ماجستير، الجزائر: جامعة مولاي الطاهر، كلية العلوم الإنسانية والإجتماعية، 2016/2017، ص71.
[23] حميد زناز، سيمون دي بوفوار معادية للنساء، عبر الرابط: https://bit.ly/38ZiKsY ، أيضاً عبر الرابط: https://bit.ly/2Mzhllr .
[24] إلف شفق،حليب أسود، ترجمة أحمد العلي،تونس: مسكيلياني للنشر والتوزيع، 2016، ص177،178.
[25] حميد زناز، سيمون دي بوفوار معادية للنساء، عبر الرابط: https://bit.ly/38ZiKsY ، أيضاً عبر الرابط: https://bit.ly/2Mzhllr ، مرجع سابق.
[26] [سورة الروم:30].