24 أكتوبر, 2020
لأن الأفكارَ تكاد أن تكون كائناتٍ تتمثل وتمشي على قدمين، فهي كذلك لها مساراتُها وطرقُها ووسائلُ نقلها، والتي تشهدُ – كغيرها – ثورةً في السرعة والكفاءة.
لم تعد الأفكارُ والمبادئ تنتقل عبر الوسائل التقليدية فحسب، الكتبِ الرصينة، والحواراتِ المتخصصة، والبحوثِ الأكاديمية، بل صارت تعبر – بعد مرحلةِ صناعتها كمواد خام في تلك المرحلة – إلى مجال القوى الناعمة، على متن قصيدة رمزية أو رواية ماتعة، أو فنٍّ بصري يقف المتأمل أمامه طويلاً، بينما تتسرب الفكرة إلى اللاوعي منه، بإذعانٍ ورضا واستمتاع.
إن الفكرة – على متن الفن – تطير بخفة وتنفذ برفق، تعبر الوعي وتتجاوز المنطق، وتتخفف عن كثير من لوازمها ومآلاتها، حتى تصبغَ في النهاية الجمهور، وقودَ الفكرة، عن انبهار وإعجاب.
من هذه الأفكار؛ فكرة (الفردانية)، ونقدم هنا نبذةً عنها، ثم عرضاً لعمل أدبي حمل هذه الفكرة، بقالب روحاني وبطولي مزعوم.
تقوم الفردانية على بلورة الذاتية لدى الفرد، واجتثاثه من كافة الجذور والالتزامات التي تحيط به، فلا اعتبار في كينونته بعد ذاك إلا لرغباته ومصالحه، وهي وإن كانت مصالحَ هلاميةً وعائمة، لكنها مبجلةٌ ومتعاليةٌ على الجماعة والقيم التقليدية.
إن الإنسان ليس بكائن فرداني ولا اجتماعي، بل هو كيان معقد السمات والخصائص، ينشد الحرية والاستقلال، لكنه يتشبث عن وعيٍ واحتياجٍ بالروابط والصلات، ولذا فإن تضخيمَ حاجة من حوائج الإنسان ونفخَها فكرياً – كما في الفردانية -، وعزلَها عن المنظومة الإنسانية التكاملية، لا يعدو أن يكون ترويجاً استهلاكياً لأجل سوق المصالح العظمى، والتمركز في النهاية حول الإنسان.
لقد قلنا من قبل، إن الجمهور هم وقود الفكرة، لكن العائق أن كل فرد منهم؛ هو ذو جذورٍ تصله بانتمائه وقيمه، وفروعٍ تربطه بأسرته وعائلته ومجتمعه، ولذا فهو حين يدعى إلى اعتناق فكرةٍ ما، فإنه يكون كتلك العصا في حزمة العصيّ، بين يدي أبناء الشيخ المحتضر في القصة العربية الرمزية الشهيرة، قويةً باتحادها صلبةً بمجموعها، عصيةً على الكسر، متعاليةً على الانصياع.
والحل؟ الحل هو بتوهين الجذور ونكث الروابط، بأقل قدر ممكن من تأنيب الضمير وعبء الواجب، وهذا لن يكون – بكفاءةٍ – إلا بمبادرة ذاتية من الإنسان، بوعي وبلا وعي، بتخيير وتسيير، ثم يغدو إنساناَ متمرداً صاخباً، حيوياً ثائراً، لكنه عمِيٌ عن خيوط المسرح الشفافة والكثيرة، التي تديره.
من قوالب الفن المعاصرة، التي تقدم الفردانية بلغة ناعمة ومتحايلة، الرواية الذائعة الصيت: (قواعد العشق الأربعون)، للكاتبة التركية: أليف شفق، وهي رواية صدرت عام 2010، وهي من أكثر الروايات مبيعاً حول العالم، وقد ترجمت إلى ما يزيد على ثلاثين لغة([1]).
تدور وقائع الرواية في حقبتين زمنيتين متفاوتتين، تقدم الفصول أحداث كل حقبة بالتراوح شبه المنتظم بينهما، الحقبة الأولى هي قصة معاصرة، تحكي تجربة إيلا وعائلتها، والذين يعيشون في الولايات المتحدة الأمريكية، في الزمن الحاضر وفي عام 2008 تحديداً، أما الحقبة الثانية فهي لأحداث تاريخية موغلة في الباطنية والرمزية، واستحضار التراث الصوفي، وذلك في القرن الثالث عشر الميلادي، حيث يلتقي المريد شمس التِبريزي بمعلمه وملهمه الروحي جلال الدين الرومي.
تمثل قصة الحقبة التاريخية، التنظير القيمي، باستلهامها للأفكار الصوفية حول التأمل والبحث، الانعتاق والخلاص، وإعادة تعريف الأشخاص والأشياء والأفكار، أما قصة الحقبة المعاصرة، فقد مثلت الحيز التطبيقي الصريح لتلك الأفكار.
الذي يعنينا هنا في هذا المقام؛ هو القصة المعاصرة الموازية، أي القصة التطبيقية، وإن كان الزمانان يتقاطعان في نهاية الرواية، الحالي والماضي، حيث تغير أفكار “شمس التبريزي” وقواعده الأربعون؛ تغير حياة ربة البيت “إيلا” إلى الأبد، فتتحول من مجرد امرأة عادية مثالية قائمة بواجباتها الأسرية، إلى ثائرة متمردة تضحي بكل شيء في سبيل العثور على الحب المزعوم.
بطلة الرواية، هي ذات سمات اختيرت بعناية فائقة لتؤدي الدور المراد لها، فهي سيدة أمريكية على مشارف الأربعين، تعيش حياتها الرتيبةَ المستقرةَ والعاديةَ مع زوجها وأبنائها المراهقين، تحصل على عملٍ كناقدة في وكالة أدبية، وتتولى نقد رواية كاتبها رجلٌ يدعى “عزيز زاهارا”، تفتن إيلا بقصتها عن الرومي وشمس، وبقواعد العشق الأربعين، والتي تقدم نظرة فلسفية تقوم على البحث عن الحب المطلق، ثم تدرك (إيلا) أن قصة الرومي تعكس قصتها، وأن “عزيز زاهارا” كما فعل شمس في الرواية، جاء ليريها طريق الحقيقة، فتتحول حياتها على إثر ذلك من بركة رتيبة هادئة إلى بحيرة ثائرة، وتبدأ بمراجعة حياتها الأسرية والزوجية، لتثور عليها في النهاية.
تُفتتح الرواية بوصف تفصيلي يتظاهر بالموضوعية – لشخصية إيلا، ترمي من خلاله إلى استدرار عطف القارئ، فتقول: “طوال أربعين عاماً، كانت حياة إيلا روبنشتاين مثل مياه راكدة، سلسلة من العادات والاحتياجات والتفضيلات المتوقعة، ومع أنها كانت حياة رتيبة وعادية من نواحٍ عدة، فإن إيلا لم تكن تجدها متعبة ومملة“.
إن بطلة الرواية – كما في مستهلها – تبدو امرأة عادية متكررة، ذات واجبات ومسؤوليات تؤديها بقبول ورضا، فلم تكن إيلا مجبرة قسراً على دورها، أو مضطهدة أو معنفة، بل هي امرأة قد اختارت موضعها الأسري عن اختيار وتقبل، كما جاء:
“لم تكن تتذمر، فهي الأم والزوجة، ومع أن صديقاتها من أنصار المساواة بين الرجل والمرأة لم يوافقنها على اختيارها هذا، فقد رضيت بأن تكون أماً لا تبرح البيت“.
وكما يبدو، فإن اختيار سمات شخصية عادية للبطلة، هو في الحقيقة مكمن خطورة، فهو يعني نفاذ النموذج إلى شريحة واسعة من الشخصيات العادية المستقرة، البعيدة عن التمرد، لكن الرواية تقرر أن كل شيء ممكن، وأن كل تغيير مطلوب، ولا اعتبار بعد ذاك لحق أو واجب.
لماذا صارت ربة البيت الرتيبة هنا بطلة مثالية للرواية؟ ولماذا تمردت على مؤسسة الأسرة بالذات، أكثر الروابط ثباتاً في حياة الإنسان؟
لا يبدو أن ذلك أمر عابر، بل يمكن قراءة هذا الاختيار في سياق الاتجاهات الفردانية الكاسحة، وقد اختارت الرواية النماذج الأقوى: ربة البيت والأسرة، لتقرر أن بمقدور الإنسان أن يبتر نفسه من كل مسؤولية إذا شاء ذلك، وبلا أدنى ألم أو شعور بالتقصير.
يقول المفكر عبد الوهاب المسيري: “تركز العلمانية على علمنة الأسرة، لأن الأسرة تحمي الفرد وتمده بالقيم، فكان طريق التأثير على الفرد هو بتحويل الأفراد فيها من أعضاءَ أولي أدوار معينة، إلى أشخاص متمركزين على ذواتهم، فالمرأة مثلاً تتحول من زوجة وأم وابنة، إلى أنثى متمركزة حول الذات، فتخرج من سياق الأسرة وتصبح جزءاً من السوق”([2]).
في النبذة عن بطلة الرواية أيضاً، تستغل الرواية أزمة منتصف العمر التي تمر بها السيدة، وهي أزمة شائعة ولها سبل التعامل الصحية مع تقلباتها، لكن الرواية تجعل من هذا الاضطراب مسوغاً لإعادة تعريف القرارات التي اتخذتها:
“لقد شعرت إيلا بالأسى على نفسها، واعتراها شعور بالأسف لأنها شارفت على الأربعين من دون أن تحقق أشياء مهمة في حياتها، فقد منحت أسرتها الكثير من الحب، بالرغم من أن أحداً لم يكن يطلبه منها“.
تجتر الرواية في حديث البطلة مع نفسها، وبشكل ساخر، بعض الأفكار القيمية التقليدية حول الحب والزواج والاستقرار، مما يظهر للقارئ أنها ذات شخصية رزينة غير طائشة، فتصف علاقتها بزوجها بأنها: “كانت تعرف أن علاقتهما لم تكن عميقة، لكنها كانت تقول لنفسها: ليس من الضروري أن يحتل الارتباط العاطفي أولويةً في قائمة حياة المتزوجين، ولا سيما بالنسبة لزوجين مضت فترة طويلة على زواجهما، ففي الزواج أشياء أهم بكثير من العاطفة، كالتفاهم والمودة والرحمة“.
ثم تختم المقدمة بجملة دراماتيكية صاخبة، ومفاجئة للقارئ، فتقول: “ولهذه الأسباب جميعها، لم يستطع أحد بمن فيهم إيلا نفسها، تفسير حقيقة ما يجري، عندما تقدمت بطلب للطلاق في خريف العام، بعد مضي عشرين سنة على زواجها، لكن كان هناك سبب، إنه الحب“.
“دهم الحب إيلا بغتة وبعنف، كما لو أن أحداً ألقى حجراً من مكان ما في بركة حياتها الساكنة“.
—
تبتدئ الرواية بمشهد كلاسيكي، الأسرة متحلقة حول طاولة الطعام، يتجاذبون أطراف الأحاديث العابرة، تحدث المفاجأة عندما تبدي الابنة المراهقة الكبرى رغبتها في الزواج من رفيقها، فتصطدم بوالديها اللذين يرفضان قرارَها، وبخاصة والدتُها، تجابهُ الفتاةُ الساخطةُ والدتَها بجرأة: “إنك تغارين مني لأنني سعيدة وشابة، إنك ترغبين في أن تجعلي مني ربة بيت حزينة، إنك تريدين أن أكون مثلك يا أمي“.
تحدثُ هذه الكلمات أثراً عميقاً ومزعجاً في نفس ربة البيت، وتتساءل بألم: “هل هي ربة منزل غير سعيدة؟ هل هي في منتصف العمر عالقة في شباك زواج فاشل؟ أهكذا يراها أطفالها؟ وزوجها أيضاً؟ ماذا عن الأصدقاء والجيران؟ وفجأة تملكها شعور بأن جميع من حولها يرثي لها، كان شكها هذا مؤلماً للغاية“.
تنغمس ربة البيت بعد ذلك في قراءة الرواية التي طلب منها نقدها، ويثار فيها الفضولُ للتعرف على كاتبها، تبحثُ عن عنوانه فتتبادل الرسائل الإلكترونية معه بشكل منتظم، تتناوب الفصول بين أحداث حياة إيلا، ووقائع الحقبة التاريخية الصوفية، حتى تتخذ إيلا في نهاية الرواية قرارها، فتهجر كل شيء، بيتَها وزوجَها وأبناءَها، وتلتحق بالكاتب، في قرارٍ خلعت عليه الرواية الكثيرَ من المجد والبطولة.
عند تحليل أحداث الرواية، نجد أنها ترتكز على ثلاثة مفاهيم ورسائل كبرى، تصب كلها في معنى الفردانية، والتمركز حول الذات، وقد صبغت هذه المفاهيم بصبغة صوفية روحانية.
وهذه المفاهيم هي: إعادة التعريف، الفراغ والامتلاء، الحق والواجب.
المفهوم الأول/ إعادة التعريف:
من المعلوم قيام الصوفية على ادعاء النظرة الباطنية للأشياء، فالحق قد يغدو باطلاً، والباطل حقاً، والمحرمات قد تكونُ طريقاً إلى التزكية، والواجبات قيوداً على الروح، وهذا ما يتجلى في الحقبة التاريخية من الرواية، ثم تستلهم الحقبة المعاصرة هذا المعنى، فتعيد ربة البيت نظرتها للأشياء من حولها.
يكون ذلك، بعد أن لفت عزيز نظرها إلى أن ادعاء معرفة الذات – والركونَ إلى ذلك – قد يكون مضللاً للمرء، وسبباً لشعوره باليأس واللاجدوى، فيقول لها: “إن الفكرة بأن المرء يعرف ذاته لم تؤد إلى إحداث توقعات خاطئة فقط، بل أدت إلى إحباطات في الأماكن التي لا تجاري فيها الحياة توقعاتنا“.
ولذا فقد كان من المتوقع أن تصل إيلا إلى ذروة الشك ونقض اليقين: “بدأت إيلا تشك في أن حياتها لم تكن حقيقية، كيف بلغت هذه النقطة؟ كيف اكتشفت أمٌّ متفانية كآبتها ويأسها؟“.
والرواية حين تقدم مثل هذا النسق الثائر في التفكير، في إعادة تعريف الأشياء، فإنه تقدمه بمنهج يسلب المبادئ – في المقام الأول – مرجعيتها القيمية وإطارها الأخلاقي، ويثير الشك في شأن الالتزام بها والاحتكام إليها، وهو ما سماه المفكر ليبوفتسكي في كتابه بمبدأ (أفول الواجب، الأخلاق غير المؤلمة).
يقول: “لقد حطت القدرة المضاعفة للحقوق الفردانية؛ من قيمة الإلزام الأخلاقي بالزواج ورعاية الأبناء”([3])، فغدت مرحلة “أفول الواجب”، استهلالاً لمرحلة تبدو الأخلاق فيها “غير مؤلمة” و”غير إلزامية”، وإنما تنبع من فردانية الإنسان، وتحقق ذاته عبر ذاته فحسب.
ولذا فقد مجدت في الرواية خصال أخلاقية معينة شديدة الذاتية، كالوعي والبصيرة والصفاء والتأمل، وهي كما يبدو أخلاق ناعمة روحية لا ترتبط بشيء من الضمير، وذلك على حساب القيم الأسرية العليا، بشكل يصفه المفكر المسلم (علي عزت بيجوفيتش)، بقوله: “لقد أصبحت وظيفة الأمومة في العصر الحديث غير معترف فيها، لأنها أمر شخصي لأطراف الاهتمام المباشر بذلك”([4]).
المفهوم الثاني/ الفراغ والامتلاء:
تقوم الفلسفة الصوفية على معنى الحاجة الروحية، والبحث الدائم، والتأمل العميق، ولذا فإن الرواية تطبق هذا الأفكار، فتراوح كثيرًا بين فكرة الفقد والعثور، والنقص والكمال، والفراغ والامتلاء، لكن ليس على سبيل التزكية الدائبة والمراجعة المحمودة، بل لأجل نقض منظومة القيم في حياة الفرد المسؤول، وتفريغ الأدوار الاجتماعية والأخلاقية التقليدية من سماتها الأخلاقية، لتبدو باهتة وزائفة، وقاصرة عن ملء الظمأ الأخلاقي والفراغ الإنساني، بل ربما حدَّت من شعور الإنسان بذاته، كما في هذا النص:
“حياتك حافلة، مليئة، كاملة، أو هكذا يخيل إليك، حتى يظهر فيها شخص يجعلك تدرك ما كنت تفتقده طوال هذا الوقت، مثل مرآة تعكس الغائب لا الحاضر، تريك الفراغ في روحك، الفراغ الذى كنت تقاوم رؤيته“.
“مهما كنا أو حيثما كنا نعيش، فإننا نشعر في قرارة أنفسنا بأننا غير كاملين كما لو فقدنا شيئاً ويجب أن نستعيده، لكن معظمنا لا يعثر على ذلك الشيء أبداً، أما الذين بإمكانهم العثور عليه، فلا يجرؤ إلا قلة قليلة على الخروج والبحث عنه“.
وهذا الامتلاء الذي تمجّده الرواية، لا يبدو على شكل واجب أسري أو التزام أخلاقي، بل هو في التمرد على كل رابطة تحد من متعة الفرد، وهذا ما تقرره الفردانية في تنظيرها، فقد “مجدت المجتمعات الحديثة حقوق الفرد المساوي والمستقل، لكنها صادرت الواجبات التي تهدد روح المتعة والفوضى، وهي تلك المنبثقةُ من صميم الأخلاق الاجتماعية والأسرية”([5])، “ولم يعد يحتكم لمقولات السعادة والفضيلة والتضحية والواجب؛ كقيم إنسانية عليا حاكمة، عمّرت لدهور طوال، ولم تعد القيم لتمارس ثقلها على أناس العصر بالأمر والنّهي، وقد باتت تشكل ألماً لهم، لذا فالحل يتم تصوره في البحث عن “أخلاق غير مؤلمة”، بقيم محايدة وناعمة، وغير مُلزمة”([6]).
ولأجل ذلك، وحين تحاول الفردانية أن تروي الظمأ القيمي، والشعورَ المنغرسَ في عمق كل إنسان، للحد الأدنى من العطاء، فإنها تلجأ إلى تضخيم صورة للإحسان، ذات صبغة تسويقية استعمارية، غير قائمة على حس بالمسؤولية أو الارتباط العميق، كما يفعل عزيز زاهارا، حين يضحي بالرفاه ليقيم أياماً في قرية نائية في بلد مدقع الفقر، ثم يختم جولته بصورة جماعية مع أطفال القرية، بأسمال بالية.
وهكذا يصور العطاء في المنظومة الفردانية: حرّ مطلق، قائمٌ على المنفعة التبادلية، خالٍ من المسؤولية التي تفعم بها العلاقات الأسرية الحقيقية، فتبدو الأخلاق تحت مظلة الفردانية: سهلة التحمل، قريبة الخلاص.
المفهوم الثالث/ مفارقة الحق والواجب:
من ركائز الفلسفة الصوفية، تجاوز الهوى، وسحق الرغبة، وبعد أن تبرز هذه المعاني بجلاء في الحقبة التاريخية من الرواية، تنفذها البطلة في الحقبة المعاصرة، لكن بنزعة من الثورة والتمرد، كما تقول: “إنّنا غير مضطّرين لمطاردة الحبّ خارج نفوسنا، كل ما ينبغي لنا عمله هو إزالة الحواجز الداخليّة التي تبعدنا عن الحبّ“.
تبدأ إيلا ثورتها بصمت، وذلك بانسحابها بشكل تدريجي من مسؤولياتها الأسرية، فتصف ذلك تبدل دورها في ذلك: “بدلاً من رؤية أن دورها في البيت نوع من مادة لاصقة، مثل الرابطة المركزية الخفية التي تجعل المرء متماسكاً، أصبحت إيلا متفرجة صامتة، وراحت تراقب الأحداث وهي تتكشف أمامها، والأيام تمر“.
ومثل هذا التنصل عن المسؤولية، هو أسلوب لاكتشاف الذات هدمي لا بنائي، ثائر لا عقلاني، كما يصور في كتاب “عصر الفراغ” بأن من سمات العصر: “الانسحاب من الأدوار والهويات القائمة، ومن التباينات والإقصاءات (التقليدية)، مما يجعل من عصرنا مشهدًا عشوائيًا غنيًا بالتفردات المعقدة”([7]).
فالنزعة الفردانية هي ما يدفع الفرد نحو “الحق في المتعة، والحق في السعي وراء المصالح الشخصية، إنه المسار الذي يسم الحداثة بأنها ثقافة فيها “الحدث الأخلاقي الأساسي والمطلق: حقٌّ وليس واجبًا”([8]).
تكتشف ربة البيت إيلا، بعد سلسلة المراسلات، أن ما تضطلع بها من الواجب الأسري، كان بمثابة الإذعان البائس للأدوار الجندرية، وتصل إلى أن لها الحقَّ في البحث عن الحب، ولو بطريق غير مشروع، ولها الحقَّ في الثورة على دورها، والانعتاق عنه بلا أي شعور بالألم.
أما عن طريق الاكتشاف لمفارقة الحق والواجب، فلا تقدم الرواية لذلك طريقةً منطقية منضبطة، بل هي تقبل بالفوضى والعبثية في سبيل ذلك، فتقول: “لا تحاول أن تقاوم التغيرات التي تعترض سبيلك، بل دع الحياة تعيش فيك، ولا تقلق إذا قلبت حياتك راسًا على عقب، فكيف لك أن تعرف أن الجانب الذي تعيش فيه أفضل من الجانب الذي يأتي“.
وكنتيجة لذلك، تُختم الروايةُ وقد تركت إيلا بيتها إلى رفيقها، مبررة ذلك بقاعدة من قواعد العشق الأربعين: “ليس من المتأخر مطلقًا أن تسأل نفسك، هل أنا مستعد لتغيير الحياة التي أحياها؟ هل أنا مستعد لتغيير نفسي من الداخل؟ وحتى ولو كان قد تبقى من حياتك يوم واحد يشبه اليوم الذي سبقه، ففي كل لحظة ومع كل نفس جديد، يجب على المرء أن يتجدد ويتجدد ثانية“.
===================
وكما بدا لكم، كانت الرواية التجلي الفرداني المثالي، لتجربة اكتشاف الذات وتحقيق الغاية، وبدلاً من أن تقدم هذا المفهوم الروحي الرفيع، ضمن دور اجتماعي مسؤول؛ كريم بالتضحية والرسالية، كأن تتقارب إيلا مع أفراد أسرتها وتكون عوناً لهم في مشكلاتهم، نجدها تصوره في تمرد ربة البيت وهروبها، وتنصلها عن مسؤولياتها، التي لم تجد فيها نفسها.
وهكذا، تفرغ الرواية الأدوار الاجتماعية من قيمها، وتمجد طريق الفوضى الأنانية، وتشرع الخيانة والانعتاق، بل وتصبغها بالقيم الروحانية، لإضفاء طابع تبريري، ومسحة بطولية، ليس إلا.
وهذا في الحقيقة؛ هو وجه من الفكرة العظمى: مركزية الإنسان، وتعاليه على كل نظام قيمي يحد من رغباته واختياراته، ولأجل ذلك: تُزيَّف الأخلاق وتبعثر القيم، وتوصم أخلاق الفضيلة والتضحية بالرجعية، وتمجَّد سمات الجرأة والجسارة في القرارات المتمردة.
وبعد كل هذا، سيبدو التساؤل الذي ورد في مقدمة الرواية، وهو: لماذا تقدمت إيلا بطلب الطلاق، مبرراً، بل ومستدراً للتعاطف والمؤازرة من لدن القارئ.
أما عن الجواب المنطقي للسؤال، خارج دِفَّتي الرواية، فهو ما ذكره المفكر عبد الوهاب المسيري، في معرض حديثه عن أسباب التفكك الأسري؛ وهو تحول كل عضو داخل الأسرة إلى (مجرد فرد)، ذاتيّ الرغبات مستقل التطلعات، ومن ثمَّ لا تتحمل الأسرةُ – بصفتها مؤسسةً اجتماعية- هذا التوتر والتصادم، مما يؤدي إلى انهيارها وتفككها.
إن هذه الروايةَ مجردُ مثال، وربة البيت فيها ليست غيرَ نموذج، والأمثلة والنماذج الفردانية في قوالب الفن المعاصر كاسحةٌ ومنتشرةٌ، وهي نشطة في إعادة تعريف القيم، وتعميق الشعور بالنقص، وتقديم الفكرة الزائفة للامتلاء، وليس من سبيل للمناعة ضدَّها، إلا بجلاء المفاهيم وتحرير المصطلحات، والتأكيد على المنظومة القيمية الإسلامية الرفيعة، وتثبيت أركان المبادئ المركزية في المجتمع، وعلى رأسها دائرة الأسرة، بكل ما فيها من التزام أخلاقي بالمسؤوليات، وتوزيع تراحمي للأدوار، فالأسرة – كما يقال – هي: “المؤسسة التي تعطي الفرد مكانته الاجتماعية دون أن تسلبه فرديته”([9]).
تمت.
([1]) ينظر: صفحة الرواية في موقع ويكيبيديا.
([2]) من مادة مسموعة على اليوتيوب بعنوان: “علمنة الأسرة”، “د.عبدالوهاب المسيري”، ببعض تصرف.
([4]) عوائق النهضة الإسلامية، علي عزت بيجوفيتش، ص 37.
([5]) أفول الواجب، جيل ليبوفتسكي، ص 47، بتصرف.
([6]) عرض كتاب “أفول الواجب”، العايب حيدر، ص 2.
([9]) ينظر: مادة مرئية على اليوتيوب: علمنة الأسرة، د.عبد الوهاب المسيري.