مركز باحثات لدراسات المرأة
بوني ج. سميث*
ترجمة: زينب صلاح
تطورت نظرية الجندر في الدراسات الأكاديمية خلال السبعينيات والثمانينيات كمجموعة من الأفكار التي توجه المجالات البحثية التاريخية وغيرها في الغرب. وقد ازدهرت في التاريخ الاجتماعي خصوصًا في الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى، مع عدد أقل من المتابعين في القارة الأوروبية. وتشير هذه النظرية أساسًا إلى النظر إلى الذكورة والأنوثة كمجموعتين من الخصائص التي أنشِأَت تبادليًّا والتي تشكل حياة الرجال والنساء. وقد تحدَّت أو حلت محل أفكار الذكورة والأنوثة و [أفكار] الرجال والنساء باعتبارها عوامل تاريخية وفقًا لمحددات بيولوجية ثابتة. وبعبارة أخرى، فإنها جعلت التاريخ ممكنًا بإزالة هذه الفئات من عالم البيولوجيا. بالنسبة لبعض الناس، كانت فكرة “تاريخ الجندر” مجرد مصطلح آخر لتاريخ المرأة، ولكن بالنسبة لآخرين غيَّرت نظرية الجندر الطرق التي تعاملوا بها مع الكتابة والتدريس حول الرجال والنساء على حد سواء. وقد يُفترض أن التغيير الرئيسي الذي أحدثته نظرية الجندر يعقِّد دراسة الرجال نوعًا ما، مما يجعلهم -مثل النساء- ذوات تاريخية جندرية.
المصادر الفلسفية والأنثروبولوجية
أنتجت الأنثروبولوجيا بعض أوائل النظريات المؤثِّرة مستخدمةً مصطلح “الجندر” عندما بدأت مناقشة “الأدوار الجندرية”. وتكمن خلفية هذا المفهوم في أبحاث ما بعد الحرب العالمية الأولى. خصوصًا [حين] وصفت مارجريت ميد (Margaret Mead) [أحوال] المجتمعات غير الغربية التي كان الرجال فيها يقومون بمهام قد يصفها الغربيون بأنها “أنثوية” والعكس صحيح. فقد وصفت ميد كثير من الاختلافات في مهام الرجال والنساء والأدوار الجنسية في دراساتها الأكثر مبيعًا “بلوغ سن الرشد في ساموا ( Coming of Age in Samoa؛ 1928)”، ممهدة بذلك أحد الطرق للباحثين لإعادة تقييم السلوكيات التي تبدو ثابتة بالنسبة للرجال والنساء ورؤية الصور النمطية باعتبارها مشروطة بدلاً من كونها تحددها الطبيعة. ومع ذلك، فإن إعادة التقييم هذه كانت حاضرة خلال معظم الخمسينيات والستينيات.
ومن المصادر الأخرى لنظرية الجندر، المصدر الفلسفي والأدبي. فقد كتبت الفيلسوفة والروائية الفرنسية سيمون دي بوفوار (Simone de Beauvoir) في كتابها الأكثر مبيعًا عام 1949م، “الجنس الآخر”: “لا يولَد المرء امرأة، بل يُجعَل كذلك”. ناقش هذا الوصف المكثف والمطول لـ “صناعة” الأنوثة نظريات ماركسية، وفرويدية، وأدبية، وأنثروبولوجية، حددت بالفعل سلوك المرأة وفقًا لبوفوار. ففي رأيها، [تتم] تصرفات النساء -بخلاف الرجال- وفقًا لنظرة الرجال إليهن وليس وفقًا لرؤيتهن. اعتمد هذا التحليل على الفلسفة الظاهراتية والوجودية التي تصوِّر تطور الفرد أو الذات في علاقة مع موضوع أو “آخر”. وهكذا -كما استقرأت بوفوار من هذه النظرية- يشكِّل الرجل شخصيته في علاقة مع “المرأة” كشخص آخر أو موضوع، ويَغزِل هويَّته الخاصة من خلال إنشاء صور لشخص ما أو شيء ما غيره. وبدلًا من أن يبني النساء أنفسهن بطريقة موازية، قَبِلن بالصور الذكورية كهوية لهن. وبهذه النظرة، كانت الأنوثة كما عاشتها معظم النساء هويةً غير صحيحة حُدِّدَت بصورة غير حتمية باعتبارها حالة طبيعية، ولكنها نتيجة لاختيار مضلل. وقد كان لهذه الرؤية آثار واسعة النطاق على الدراسات البحثية المستقبلية، لا سيما في اقتراح جانب تطوعي لدور المرء أو طبيعته الجنسية.
لكن الاستقراء الثاني من الوجودية في [كتاب] الجنس الآخر تطرق إلى الدور البيولوجي للمرأة كمنتِج. فبالنسبة للوجوديين، يستلزم العيش في حياة حقيقية الهروبَ من عالم الضرورة أو البيولوجيا والتصرف في عالم الطواريء. وانطلاقا من هذه العقيدة، افترضت بوفوار أن النساء يعشن كذلك حياة غير حقيقية حتى اتجهن إلى المزايدة الطبيعية فحسب من خلال إنجاب الأطفال وتربيتهم. ويجب عليهن أن يبحثن عن الحرية والأصالة من خلال أفعال ذات معنى لا ترتبط بالحتمية البيولوجية. وقد فتح التأكيد على أن المرأة يمكنها الهروب من المصير البيولوجي لتكوين كينونة بعيدة عن الأسرة الطريقَ أمام نظرية الجندر. أتاح مجموعة من المترجمين في نورثامبتون، ماساتشوستس (Northampton, Massachusetts)، [وهي] المنطقة التي تعمل تحت رعاية [المترجم] H.M. Parshley، [كتاب] الجنس الآخر لجمهور الناطقين باللغة الإنجليزية في الخمسينيات، وفي عام 1963م، نشر [كتاب] الغموض الأنثوي لبيتي فريدان (Betty Friedan’s Feminine Mystique) مزيدًا من أفكار بوفوار للأمريكيين.
لم تكن نظرية بوفوار هي المذهب الفرنسي الوحيد الذي وضع بعض الأسس لنظرية الجندر. فخلال فترة ما بعد الحرب نفسها، طوَّر عالم الأنثروبولوجيا كلود ليفي شتراوس (Claude Lévi-Strauss) نظرية تسمى [النظرية] البنيوية (structuralism). ووفقًا للنظرية البنيوية، فقد عاش الناس في المجتمعات ضمن أطر فكرية تشكِّل شبكات للسلوك اليومي. هذه الأطر ثنائية عمومًا، وتتألف من متقابلات مثل النقي والمَشوب، أو الخام والمطبوخ، أو المذكر والمؤنث. وقد عملت الثنائيات مع وضد بعضها كعلاقات. ويمكن للمرء أن يستنتج من البنيوية أنه في حالة المذكر والمؤنث، كانت هذه المفاهيم أو الخصائص محددة بشكل متبادل لأنها تشترك في حدود مشتركة، بحيث يتحول السلوك المؤنث -بمجرد عبورها- إلى مذكر والعكس بالعكس. ورغم أن ليفي شتراوس رأى هذه الثنائيات باعتبارها ثابتة، إلا أن الأساس قد وضِعَ مرة أخرى لرؤية الذكورة والأنوثة باعتبارهما شيئًا متشابكًا وبوصفهما جزءًا من الثقافة، بدلًا من كونهما شيئًا أكثر ثباتًا، وجزءًا من البيولوجيا كذلك.
طور ليفي شتراوس هذه النظريات في [كتاب] “البُنى الأولية للقرابة (The Elementary Structures of Kinship (1949))”، حيث اتخذ القرابة كفئة تنظيمية أساسية لكل المجتمع باعتبارها تقوم على أساس تبادل النساء. وقد درسَت عالمة الأنثروبولوجيا الأمريكية غايل روبين (Gayle Rubin) ليفي شتراوس بالتفصيل في [مقالة] “الاتجار بالنساء (The Traffic in Women (1975))”، وهي مقالة عملت على تطوير نظرية الجندر. أكدت روبين أساسًا على الطابع الهرمي للعلاقة بين الرجال والنساء كعنصر لما صار علماء الأنثروبولوجيا وعلماء الاجتماع يطلقون عليه الجندر مستشهدة بأوجه القصور الماركسية والفرويدية في التفكير حول النساء والرجال: “يمكن اعتبار تبعية النساء ناتجًا للعلاقات التي يتم من خلالها تنظيم وإنتاج الجنس والجندر”. والفكرة الثانية التي استخلصتها روبن من ليفي شتراوس هي أن التماثل بين الرجال والنساء كان أهم المحرمات في جميع المجتمعات. هذه “الحتمية” للاختلاف الجنسي هي ما صنع “جميع الأشكال الواضحة للجنس والجندر”، والتي كانت بالتالي “تقسيمًا اجتماعيًا مفترَضًا للجنسين”. هذا الاختلاف الجنسي المفروض “حوَّل الذكور والإناث إلى ‘رجال‘ و ‘نساء‘”. وبحلول عام 1980م كانت عبارة” البناء الاجتماعي للجندر” شائعة بين علماء الأنثروبولوجيا وعلماء الاجتماع وبعض علماء النفس. فكما ذُكِر في كتاب مرجعي عام 1978م: “موقفنا النظري هو أن الجندر بناءٌ اجتماعي، وأن عالَمًا [يتكون] من “جنسين” هو نتيجة للطرق المشتركة والمسلَّم بها اجتماعيًّا والتي يستخدمها الأفراد لبناء الواقع” (Suzanne Kessler, Gender: An Ethnomethodological Approach, p. vii).
تأثير التحليل النفسي، والنسوية الفرنسية، وفوكو
وجهت مقالة روبن الباحثين إلى التحليل النفسي، وقد ساهمت المفاهيم المستمدة من التحليل النفسي أيضًا في نظرية الجندر كما يرى البعض، مما أنتج عددًا محدودًا من التطبيقات التاريخية بحلول التسعينيات. فقد رأت روبن اللحظة الأوديبية، كما عرَّفها سيغموند فرويد (Sigmund Freud) أول مرة، باعتبارها اللحظة التي يتم فيها تثبيت المعيار الاجتماعي للاختلاف الجنسي في كل نفسيَّة. وروَّجت مقالتها للمحلل النفسي الفرنسي جاك لاكان (Jacques Lacan)، الذي دمجت كتاباتُه رؤى ليفي شتراوس بـ[نزعة] فرويدية مُحَدَّثة. واعترفت روبن بأنه يمكن اعتبار فرويد وليفي شتراوس ولاكان حُماة التمييز الجنسي في النفس والمجتمع، لكنها قدَّرَتهم أيضًا وحثت العلماء على تقديرهم لما قدموه من تفصيلات حول التمييز الجنسي كمؤسسة نفسية اجتماعية راسخة بعمق. ونتيجة لبحوث روبن وغيرها فيما يتعلق بالتحليل النفسي وأهميته للدراسات البحثية، بدأت بعض نظريات الجندر تستوعب هذا المكون أيضًا.
استعرضَت الأعمال المنشورة لفرويد بين عامي 1899م و 1939م قضايا عن جنسانية المرأة وتشكيل الهوية. وشهدت صياغته تطورًا نفسيًّا جنسيًّا للنساء يعتمد على تخيلات القضيب الذكري، والأعضاء التناسلية الأنثوية باعتبارها الجوهر الذي يفتقر إليه. وكما يفهم الصبي الصغير امتيازه بعضوه، تفهم الفتاة الصغيرة “افتقارها” ووالدتَها كنوع الحطِّ من قدر الأنوثة. ويدفعها ذلك إلى تقدير تفوق الذكور وإلى أن تلقي بنفسها بلهفة في أحضان رجل (والدها أولًا ثم زوجها) كجزء من تطوير أنوثة معيارية ميَّالة للجنس الآخر بالزواج والأمومة -وليس إلى العمل الوظيفي- كأهداف لها. وفي مقابل ذلك، يخشى الأولاد من أن يصبحوا مخصيين مثل أمهاتهم، اللاتي يعرفون أن أعضائهن التناسلية ناقصة، وبالتالي يبدأ خوفهم من آبائهم، ويكبتون حبهم الطبيعي الطفولي لأمهاتهم، ويبنون غرورًا وشعورًا أخلاقيًّا قائمًا على أساس التعرف على الذكورة والإنجاز. ولكن في حالة كل من الأولاد والبنات، توجد طرق كثيرة موصلة إلى هوية الكبار تقوم على عدة طرق لتفسير علم البيولوجيا والصورة الذهنية للأبوة. وهكذا أصبحت الفرويدية -باعتبارين- مكونًا مهمًّا لنظرية الجندر [حيث]: أولًا، افترضت هوية لا تعتمد على تصورات البيولوجيا فيما يتعلق بالهويات الأبوية رغم ارتباطها بالبيولوجيا. وقد رأى فرويد -علاوة على ذلك- أن الهوية النفس-جنسية تتطور بصورة علائقية، محرِّرًا [بذَلك] الذكور والإناث من الحتمية البيولوجية الصارمة. أي أن القوة الثقافية للقضيب الذكري كانت مهمة فقط فيما يتعلق بالافتقار الأنثوي للقضيب أو بالإخصاء. وقد أنبأت هذه النسبية لنفسية الذكر والأنثى بنظرية الجندر.
لم تختلف نظريات جاك لاكان عن الفرويدية[1] اختلافا كبيرًا وأصبحت مؤثرة ومحل جدل في نظرية الجندر. فقد وصف لاكان طبيعة الذات المنقسمة المجزأة بمصطلحات أقوى. رأى فرويد الأنظمة العقلانية والجنسية والأخلاقية داخل الذات كما لو كانت في تنافس دائم. أما لاكان فقد قدَّم انقسامًا آخر مختلفًا في مقال عن “مرحلة المرآة (mirror stage)”. إذ يكتسب الطفل هوية من خلال رؤية الذات أولًا من جهة [شخص] آخر -الأم- وفي المرآة، من خلال الآخر مرة أخرى. كانت كلتا هاتين الصورتين مجزأة لأن الأم تختفي من حين لآخر، وكذلك الصورة في المرآة. وكانت الذات دائمًا هي هذه الهوية المجزأة والعلائقية. كما افترض لاكان اللغة باعتبارها عاملًا يؤثر تأثيرًا حاسمًا ويوفر هياكل الهوية والوسيط الذي من خلاله تتكلم تلك الهوية. وخلال الكلام، ينطق المرء أولاً “اسمه (nom/ name)” -الذي هو اسم “والده”- وبعفوية وبحديث المرء عن نفسه يتحدث “غيره”، [وهذه] موانع أو قواعد تلك اللغة، التي وصفها لاكان بأنها قوانين “الأب” أو قوانين القضيب. أضافت اللاكانية إلى نظرية الجندر معنى إضافيًا للطبيعة المتشابكة للذكورة والأنوثة، بدءًا من الهوية باعتبارها قائمة على أساس التصور الأمومي ومجزأة بسببه. وثانيًا، سلطت الضوء على قوة الذكورة التعسفية تمامًا -ولو كانت فخمة فيما يبدو- بوصفها امتدادًا للقضيب، أو نسخة ثقافية للعضو الذكري. ثالثًا، تلقت الطبيعة الخيالية للذات الجندرية -وفي الواقع لكل من الهوية والقيادة البشرية- تأكيدًا صار حاسمًا بالنسبة لبعض ممارسي تاريخ الجندر.
وتحت شعار ما أصبح يعرف باسم “النسوية الفرنسية”، تعرَّف المنظرون الفرنسيون على الرؤية اللاكانية والبنيوية وغيرها من الرؤى لصياغة موقف ساهم في نظرية الجندر. بالنسبة لهؤلاء المنظرين مثل لوس إيريغاراي (Luce Irigaray)، عرقلت العموميةُ الذكورية الذاتيةَ الأنثوية تمامًا. إن ما أسمته سيمون دي بوفوار بـ “الآخر” ليس له علاقة بالنساء، ولكنه يعني نسخة أخرى من الذكورية [أو] الإسقاط الذاتي للذكور. وهكذا ظهرت المرأة على أنها ممحوَّة، ومعوزة، كما ظهرت في [كتاب] إيريغاراي “هذا الجنس الذي ليس واحدًا (This Sex Which Is Not One (1985))”، باعتبارها غير قابلة للتمثيل بعبارات معتادة. كانت المرأة هي الذات المنقسمة وغير المتحدة والمجزأة. وكانت نتيجة كتابة التاريخ الاجتماعي هي خلاصات مثل [كتاب] ميشيل بيروت (Michelle Perrot) “هل تاريخ النساء ممكن؟ (Is a history of women possible?: 1984)”. وقد تم تناول مسألة كيف يمكن كتابة تاريخ الأجزاء (fragments)، و”الذوات المقصاة”، والشخصيات الأخرى التي لا توجد لأجلها مواثيق تاريخية في بعض الكتابات المشتقة من النسوية الفرنسية. وحاول [كتاب] جوان سكوت (Joan Scott) “مجرد مفارقات للعرض (Only Paradoxes to Offer (1996))” تنفيذ هذا المشروع نوعًا ما من خلال إزالة السير الذاتية والقصص من عرضه للنسويات الفرنسيات.
اعترض الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو (Michel Foucault) على التفسير المعياري للسلطة الاجتماعية والسياسية كقوة ملموسة تنبثق من مصدر واحد. بدلاً من ذلك، [فقد رأي أن] السلطة تقريبًا قوة حياة نيتشوية [2] تنتشر عبر المجتمع، وبالتالي تشكل شبكة يعمل فيها جميع الناس. وقد أنتجت شبكةُ السلطة الذواتِ -أو بوجه أعمَّ- الناسَ فيما صاغوا هم مبادئها. وهكذا أكد فوكو في فلسفته الشهيرة في كتابه “التاريخ الجنسي (History of Sexuality (1977))” مثلًا أن التحدث عن الجنس أو التصرف بطريقة جنسية فاتنة ليس في حد ذاته فعلًا تحرريًا بل بالأحرى صياغة للقواعد الاجتماعية حول الجنس، وبالتالي مشاركة في السلطة والقانون. رأى فوكو عمل الدولة الحديثة باعتباره تضمينًا غير مرئي للناس بصورة متزايدة في ممارسة السلطة حول القضايا الجسدية، والمعنى [نفسه] في عمله عن السلطة البيولوجية الموجودة في أنشطة الأطباء ورجال الدين والمسؤولين الحكوميين والمصلحين العاديين. وبتقليل أهمية الوكالة البشرية أو حتى إزالتها، يتناسب عمل فوكو بالفعل مع بعض النظريات الحديثة للتاريخ الاجتماعي في السبعينيات، ولا سيما ذلك الفرع الذي يبحث في سلوك الناس بدلًا نفسياتهم.
ساهمت جوانب كثيرة من نظريات فوكو في التاريخ الاجتماعي الفرنسي للمرأة مباشرة. وقد وصفت أرليت فارج (Arlette Farge)، المؤرخة الاجتماعية والثقافية الفرنسية، حياةَ الباريسيين في القرن الثامن عشر بطريقة فوكويَّة[3]. أي أنها عند قراءة تقارير الشرطة والتقارير القانونية، رأت تلك الحيوات باعتبارها “مُنتَجة” وتكوَّنت في هذه المواجهة القانونية (La vie fragile: Violence, pouvoirs, et solidarités à Paris au XVIIIe siècle; 1986). وأنهم شكلوا حيواتهم أثناء تقديمهم الإجابات على [أسئلة] المستجوبين، كما فعل الجيران والشهود الآخرون. وفي الوقت نفسه، احتجوا وقاوموا الاتهامات والتوصيفات. أظهرت دراسات فارج أيضًا إنتاج الجندر من قبَل القانون، على الرغم من أن هذه النظرية لم تتخذ بعدُ شكلًا محددًا في العمل التاريخي. وكذلك فسَّر الكتاب الفوكوي “فتيات الزفاف: البؤس الجنسي والبغاء (Les filles de noce: Misère sexuelle et prostitution (1978))” لآلاين كوربن (Alain Corbin) البغاءَ القانوني باعتباره ناشئًا عن طموح الدولة في تنظيم هذه الأعمال الجنسية والإشراف عليها. ففي بيت الدعارة يكون للحياة طابعها الخاص، ولكن هذه تجربة عمَّال الدولة في مجال الجنس.
نظريات الجندر ما بعد البنيوية
على الرغم من أن كثير من هذه النظريات كان لها تأثير بقدر ما على التاريخ الاجتماعي للمرأة، إلا أنها التحمت معًا في عام 1986م عندما أصدرت المؤرخة جوان سكوت بيانًا مثيرًا حول نظرية الجندر في [مجلة] مراجعة التاريخ الأمريكي (AmericanHistorical Review). طلبت سكوت في [مقالتها] “الجندر: فئة مفيدة للتحليل التاريخي (Gender: A Useful Category of Historical Analysis)” من المؤرخين تغيير الفهم العلمي الاجتماعي للجندر من خلال إضافة التحليل النفسي اللاكاني[4]، وتفكيك جاك دريدا (Jacques Derrida) ([وهي] نظرية فلسفية تعرض الصعوبات في تحديد معانٍ أو حقائق محددة للنصوص)، والتعريفات الفوكوية-النيتشوية للسلطة. ففي رأيها، وصلت الحركات الماركسية والأنثروبولوجية والنفسية التي تتجه نحو فهم الجندر إلى طريق مسدود لأنها تميل إلى رؤية الذكور والإناث بوصفهم يتمتعون بخصائص أساسية أو دائمة. لطالما اعتبرت الماركسية أن قضايا المرأة تخضع حتمًا لقضايا الطبقة، ولم يكن لدى النسويات اللواتي يؤمنَّ بالماركسية طريقة مقنعة لتفسير اضطهاد الرجال للنساء. مثلهن في ذلك -وفقًا لسكوت- مثل الباحثين النسويين الذين درسوا النظام الأبوي أو بحثوا عن “أصوات النساء”. ورغم التقدم الكبير، لم يتمكن من دراستها [5]حتى أولئك الذين اتبعوا الآن زمام “المعارضات الثنائية” للأنثروبولوجيا البنيوية. وقد منع جمود فئات الذكور والإناث في أيٍّ من هذه الأنظمة، لا سيما أعمال تلك [الأنظمة] التي تبحث عن “أصوات” و”قيم” المرأة الجندرَ من أن يكون مفيدًا بالقدر الممكن.
ولتلطيف الأجواء، بحثت سكوت الطريقة التي يمكن بها لثلاثة من المنظرين الفرنسيين التغلب على جمود نظرية الجندر بالصورة التي انطلقت بها حتى منتصف الثمانينيات. استند التحليل النفسي اللاكاني جزئيًا إلى فهم اللغويِّ السويسري فرديناند دي سوسير ( Ferdinand de Saussure) للغة كنظام تكتسب فيه الكلمات معنى فقط حينما تتعلق ببعضها. وقد اقترنت هذه الرؤية بأفكار فرويدية منقحة حول الاكتساب النفسي للهوية كعملية تتشكل من خلال القيمة العليا المضفاة على القضيب، وقد عُبِّر عن هذه القيمة بالنظام الرمزي للغة. بالنسبة لسكوت، كانت اللاكانيَّة وجميع الاختلافات النفسية التي تنطوي عليها أحد مفاتيح فهم الجندر كعلاقة مُلحَّة ولا مفر منها. أما نظرية فوكو للسلطة باعتبارها مجالًا يتعامل فيه جميع البشر فقد قدَّمت نظرةً قيمية أخرى. أشارت سكوت إلى أن استخدام [فلسفة] فوكو سمح بإدخال قضايا الجندر في التاريخ السياسي، وبالتالي بالتغلب على الفصل الذي حافظ عليه المؤرخون بين تاريخ المرأة والأساس السياسي الذي استندت إليه معظم الكتابة التاريخية.
وأوضحت سكوت أيضًا أن الجندر يمكن أن يكون فئة أو موضوعًا للمناقشة تعمل من خلاله السلطة. وبالتالي يمكن أن يعمل بعدة طرق. أولا، لأن الجندر يعني التمايز، فيمكن استخدامه للتمييز بين الأفضل والأسوأ، والأكثر أهمية والأقل أهمية. واستخدام مصطلح “أنثوي” ينطق بمكانة أدنى في التسلسل الهرمي الاجتماعي أو السياسي. وبالإضافة إلى ذلك، يوضح الجندر أو يحدد معنى لأي عدد من الظواهر، بما في ذلك العمل، والجسد، والنشاط الجنسي، والسياسة، والدين، والإنتاج الثقافي، وعدد لا نهائي من المجالات التاريخية الأخرى. ونظرًا لأن كثيرًا من هذه المجالات أسس فيها التاريخ الاجتماعي نفسه وأدَّت سكوت نفسها فيها أعمالا كثيرة أيضًا، فقد لاقت نظرية الجندر بتنوعها جمهورًا مرحّبًا.
قدمت الفيلسوفة جوديث بتلر (Judith Butler) نسخًا بنيوية أخرى لنظرية الجندر التي أثرت على المؤرخين. فقد جادلت بتلر في كتابين مشهورين للغاية، مشكلة الجندر (Gender Trouble (1990)) والأجساد التي تهمّ (Bodies That Matter (1993))، جادلت ضد الحديث عن الأنثوية من جهة الأنوثة الجوهرية. وبالاعتماد على مجموعة من النظريات، اقترحت بتلر مناقشة العمل البشري بقدر أقل من حيث سلوك الشخص المعرفي والواعي وبقدر أكبر باعتباره تكرارًا للقواعد الاجتماعية. وأكدت بتلر أن حقيقة أن الأفعال تكرارٌ للقواعد لا ينبغي أن تؤدي إلى القدرية[6] ، لأن مثل هذه التكرارات في البيئات المناسبة يمكن أن يكون لها عواقب مزعجة بل قد تؤدي إلى التغيير الاجتماعي. أسهم [كتاب] الأجساد التي تهمّ إسهامًا مهمًّا في النقاشات حول نظرية الجندر التي اعتبرت الجندر “مبنيًّا” والجنس أو الجسد “حقيقيًّا” وتحدده البيولوجيا. كان رد بتلر هو رفض “الجنس” كأساس لـ “بناء الجندر”. فالـ “الجنس” مبنيٌّ مثل الجندر، ولكن اختص “الجنس” ببنائه باعتباره أساسيًّا أو حقيقيًّا أكثر من الجندر.
وبحلول عام 1990م، قدم سكوت وبتلر وباحثون آخرون انتقادين بلوَرا استخدام نظرية الجندر في التاريخ الاجتماعي. الأول كان نقد العمومية، مما يعني نقد السرديات والتحليلات التي جعلت النساء يشتركن في أنوثتهن. وعلى الرغم من أن المؤرخين الاجتماعيين كانوا أكثر وعيًا من كثيرين في تقييم الاهتمامات الطبقية، إلا أن الاتجاهات الماركسية في التاريخ الاجتماعي كانت تميل إلى رؤية الطبقة بوصفها عمومية أيضًا، الأمر الذي تجاوز خصوصياتٍ مثل العرق والجندر. وقد أدى نقد [النزعات] العمومية خصوصًا إلى صدارة النساء الملونات والنساء خارج الإطار الغربي للتاريخ الاجتماعي. وكذلك ساعد نقد الجوهرية (essentialism) على تشجيع دراسات أكثر خصوصيَّة لأنه نفى جوهر الأنوثة. كما أوضح [كتاب] دنيس ريلي (Denise Riley) “هل أنا هذا الاسم؟: النسوية وفئة ‘النساء‘ في التاريخ” (Am I That Name?”: Feminism and the Category of “Women” in History (1988)) أن الأنوثة كفئة أساسية تم إنشاؤها في القرن التاسع عشر لتمثيل “الاجتماعي” وبالتالي [تمثيل] جوهر موحد. وقد ذهب نقد الجوهرية إلى أبعد من ذلك. إذ جادل [كتاب] “دليل التجربة (Evidence of Experience)” لجوان سكوت بأنه حتى ادعاء هوية المجموعة أو جوهرها بناءً على تجربة المرء التي يتشاركها مع الآخرين كان مستحيلاً ككيان أصيل أو أصلي. وبالبقاء في عالم من اللغة والثقافة تم بناؤه بالفعل، لا يمكن لأي هوية أن تشير إلى لحظة أساسية وجوهرية لتكوين الذات أو المجموعة.
انتقادات واتجاهات جديدة
في حين كانت النظريات الاجتماعية والعلمية للجندر أقل إثارة، نجد أن نظريات الجندر التي تضمنت أفكار فوكو ودريدا والنسويات الفرنسيات أثارت في البداية نقاشا وتوترًّا لا يصدقان بين المؤرخين. لسبب واحد، وهو أن النظريات تثير المشكلات باعتبارها نخبوية ولا يمكن للجميع الوصول إليها. لقد كانت “نظريات”. وقد تغير هذا، بقليل من التعلق بمشكلات الناس الحقيقية. في الواقع، أثارت النخبوية الجريئة المرتبطة بالنظريات الصعبة اتهامًا لهذه النظريات بأنها كانت في واقع الأمر فاشية. وظهر توازٍ آخر مع الفاشية متمثلا في الازدراء الذي كان يقدمه اليسار التقليدي في كثير من الأحيان من خلال الأشخاص الذين رأوا “النور” الحقيقي لنظرية الجندر ما بعد الحداثية. فصار “المنظرون” النسويون مستهدفين من منظورات متنوعة؛ وأشعلت النظرية النسوية المرتبطة بهذا البديل الأكثر [ميلا] للتحليل النفسي والذي يتجه لغويًا نحو نظرية الجندر نيران ما بعد حداثية كثيفة.
على الرغم من أن كثيرين يساوون بين تاريخ الجندر وتاريخ النساء، إلا أنه بالنسبة لبعض المختصين يبدو الأمر وكأنه طريقة معادة لنقل تاريخ المرأة إلى الصف الخلفي. والآن بعد أن كان المؤرخون يعترفون بحسم بشرعية تاريخ المرأة، صارت الحجة [هي] لماذا يجب أن ندع هذا التقدم جانبا من أجل صناعة تاريخ للجندر؟ في هذه الحجة بدت نظرية الجندر وكأنها تعمل ضد تاريخ المرأة، وبينما اندفع الناس لصناعة تاريخ للجنس الأكثر أهمية -الرجال-، أحيى المنظرون النسويون أنفسهم النماذج القديمة للقضاء على النساء. وركز اعتراض آخر على جانب لا يزال مختلفًا من اتصالات تاريخ الجندر بما بعد الحداثة وخاصة بنظرية التفكيك لأنها تؤثر على تاريخ المرأة. من خلال هذه الرؤية، قوَّض التشكيك في الذاتية والوكالة الواردة في نظرية ما بعد الحداثة أحدَ الأهداف الرئيسة لتاريخ المرأة، وهو اتخاذ نموذج المرأة كذوات ووكلاء للتاريخ. لقد فقدت الإنجازات والمساهمات التي بذلها تاريخ المرأة باعتبارها آلامًا من التراكم بريقَها. وفيما يتعلق بفرضية الذاتية العلائقية أو المنقسمة (عندما يُسمَح بشيء من ذلك)، قوضت نظرية الجندر -فوق ذلك- الصورة الإيجابية المستقلة للمرأة. ففي حين كافح تاريخ النساء لتحرير رصيد النساء من تاريخ الأسرة والرجال، بدت نظرية الجندر وكأنها تنحو بهن إلى المنحى “العلائقي” الذي منحهن المؤرخون إياه عمومًا.
وأخيرًا، فسر منتقدو نظرية الجندر الجهود الفرويدية لتلك النظرية باعتبارها تستنزف نتائج التاريخ الاجتماعي التي اعتبَرت المرأة فاعلًا “عقلانيًّا” بوضع استراتيجيات أسرية للحد من الخصوبة، وأنماط العمل، وإدارة الأسرة، أو الحركات الاجتماعية مثلا. فمن وجهة نظر هؤلاء النقاد، أعادت الفرويدية في نظرية الجندر النساءَ إلى قوالب الرغبة الجنسية واللاعقلانية بل والإفراط الجنسي التي ميزت ظهورهن النادر في التاريخ حتى الآن. كانت إضافات لاكان محل ارتياب بنفس القدر بالنسبة لهؤلاء النقاد، لأن نظريته كانت تشكك في الذكورية بصورة أقل من وضعها [7] في قلب كل سلطة وقيمة بلا نقاش. فأي محاولة للتشكيك في قوة القضيب أو في الرجال بصورة أوسع كانت [تعتبر] ضلالًا أو مرضًا. وهكذا، فإن النسويين من بين أولئك النقاد -وهم معظمهم- اعتبروا الجوانب اللاكانية لنظرية الجندر مناهضة للنسوية، أو حتى كارهة للنساء. وأصبح فرويد ولاكان -كأيقونات ثقافية- أمثلة أخرى على القيادة التلقائية التي وهِبَت لكراهية النساء، بما في ذلك معظم المنظِّرين الذكور المتميزين في الفكر الاجتماعي.
لقد غيَّر منظرو ما بعد الكولونيالية، بقيادة خاصة غاياتري سبيفاك (Gayatri Spivak)، نظرية الجندر عندما بدأوا ينظرون إلى العلاقة الكولونيالية-الإمبريالية من منظور ما بعد الحداثة. وتساءلت سبيفاك عما إذا كان يمكن “للتابع” أو للمستعمَر، أو الذات المسيطَر عليها “أن يتكلم”[8]. يمكن أن يشغل هذا السؤال سلسلة من الاحتمالات، من هل للمستعمَر الحق في التكلُّم إلى هل يمكن للشخص أن يكون مشبَّعًا بقيم المهيمِن لدرجة أنه/ـا يفقد سلطته في أن يكون وكيلًا خاصًا لثقافته الخاصة. إن مصطلح “التابع” له معنى خاص عند أولئك الذين يكونون نساء وذوات استعمارية في آن واحد. ومن نظرية ما بعد الكولونيالية، بدأ المؤرخون الاجتماعيون ينظرون إلى الجندر كمنتَج للأنظمة الإمبريالية، تحديدًا باعتباره قد أُنتِج في سياق الهيمنة الغربية والمقاومة أو الخضوع غير الغربيين، أو كليهما.
عززت العلوم نظرية الجندر، وبالأخص عند مناقشة حياة الذين ولدوا بأجساد جنسية مُشكِلَة. ففي [كتاب] الأجناس الخمسة The Five Sexes))، ناقشت العالمة آن ستيرلينغ (Ann Fausto-Sterling) أننا إذا حددنا “الجنس” من خلال الخصائص الفسيولوجية والكروموسومية، فسيكون هناك خمسة أجناس. ومع ذلك، غالبًا ما يُحاول المجتمع أن يقصر الجنس الجسدي عن طريق الجراحة أو وسائل أخرى على جنسين – ذكر وأنثى. وبالإضافة إلى ذلك، يعتقد الآباء والأطباء وعلماء النفس والمعلمين عدم قدرة المجتمع على التعامل مع أكثر من جنسين اثنين. ونتيجة لذلك، فإنهم يوجهون سلوك غير التقليديين بين الأجناس الخمسة إلى السلوك الراسخ لمعيار الدور الجندري “الذكوري” أو “الأنثوي”. قدم هذا الفهم العلمي تعزيزًا آخر لنظرية الجندر التي تدَّعي الطبيعة التعسفية والاجتماعية والمبتكرة للجندر. فمن خلال استكشاف السلوك الجنسي والهوية الجنسية في القرن الثامن عشر على سبيل المثال، ركز راندولف ترومباش (Randolph Trumbach) بشكل خاص على الذكر المتخنث بوصفه “جنسًا ثالثًا” فاعلًا اجتماعيًّا.
ليس من المستغرب أن المؤرخين طوروا بدائل لتاريخ الجندر وتاريخ المرأة. فقد اقترح المؤرخ الألماني جيزيلا بوك (Gisela Bock) أن كليهما ضروري، ولكل منهما قيم ومساهمات خاصة ليقدمها للتاريخ. كما اقترحت جوديث بينيت (Judith Bennett ) المتخصصة في دراسة العصور الوسطى أن الهدف الرئيسي للمؤرخات يجب أن لا يكون تاريخًا للجندر بقدر ما يكون تحقيقًا منسقًا في الأبوية. وبدافع للتحقيق في مصادر معاملة المرأة باعتبارها في منزلة دنيا وفي مكانتها في المجتمع، جادلت بينيت بأن المؤرخين بحاجة إلى رسم الكون التاريخي وتعامل النظام الأبوي بجميع أشكاله. وعملت المؤرخة الأمريكية جيردا ليرنر (Gerda Lerner) على هذا المنوال في [كتابها] “خَلق البطريركية (The Creation of Patriarchy. (1986))”. وفي حين رحب بعض مؤرخي العِرق والاستعمار بنظرية ما بعد الحداثة والجندر لالتزامها بتحطيم الشمولية والعمومية، شكك البعض الآخر في التركيز على الرؤى المفككة والجزئية. لقد جادل هؤلاء النقاد بأن الأشخاص الملونين والشعوب المستعمرة عانوا بالفعل من الانقسام والتبعية في حياتهم الفعلية وفي تاريخهم. وموقف الذات المستقلة مع تاريخ عالمي -في رأيهم- سيكون تغييرًا منعشًا، بل تغييرًا ضروريًا.
نظرية الجندر والتاريخ الاجتماعي
لقد شكلت الأشكال العديدة لنظرية الجندر كتابة التاريخ الاجتماعي الأوروبي. فقد كان تاريخ النساء العاملات والطبقات الدنيا من أوائل المجالات التي أدركت آثار نظرية الجندر. عرض [كتاب] جوديث والكوفيتز (Judith Walkowitz) “البغاء والمجتمع الفيكتوري: النساء والطبقة والدولة (Prostitution and Victorian Society: Women, Class, and the State (1980))” الطرق التي شكل بها الفيكتوريون لجوء نساء الطبقة العاملة إلى البغاء غير الرسمي خلال فترة الأجازة [في صورة] هوية من خلال سياسة الدولة. وفي حين أن التبادل الموسمي لنساء مجتمعات الطبقة العاملة في ممارسة الجنس مقابل المال أو الطعام لم يجعلهن بارزات، إلا أن سياسة الدولة للبغاء والسجن والاختبارات الطبية القسرية حولت هؤلاء النسوة من عاملات إلى منبوذات. وبدلا من أن تكون هوية هؤلاء النساء حقيقية، فقد تم بناءها. بعد عمل آلاين كوربن ووالكوفيتز، تقاطع التاريخ الاجتماعي للبغاء مع نظرية الجندر المتطورة بشكل متزايد. ويرى [كتاب] لوريا بيرنشتاينز سونيا (Laurie Bernstein’s Sonia)“البنات: البغايا وقانونهن في الإمبراطورية الروسية (Daughters: Prostitutes and Their Regulation in Imperial Russia (1995))” قانون البغاء باعتباره تشريعًا للجندر يتم من خلاله تفسير النقص الأنثوي بوصفه مرضًا وخضوعًا لدولة أبويَّة تكتسي زيَّ الأطباء والشرطة وغيرهم المنظمين.
وفي قلب التاريخ الاجتماعي لما بعد الحرب، اكتسب تاريخ العمل أيضًا رؤى من نظرية الجندر، حيث نظر الباحثون إلى العمل الزراعي، والحرفي، والصناعي، والخدمي من منظورها. وأظهر [كتاب] ديبورا فالينز (Deborah Valenze) “المرأة الصناعية الأولى (First Industrial Woman (1995) )” تحديث العمل خلال الفترة الانتقالية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر باعتباره يتألف من نوعين للجندر. يوضح فصل مخصص عن صناعة الألبان والجندر هذا الانتقال، حيث أصبحت النساء عاملات أقل قيمة وأصبح الرجال عمالًا متطورين ومقدَّرين، سواء في الزراعة أو الصناعات المنزلية. وبأخذ أحد الموضوعات الأساسية في التاريخ الاجتماعي في الاعتبار، أوضح [كتاب] تيسَّا ليو (Tessie Liu) (Weaver’s Knot (1994)) أن أحد أبطال التاريخ الاجتماعي -الحِرَفي الذكَر- استطاع البقاء كعامل مستقل فقط بسبب العمل البروليتاري لبناته وزوجته في المصانع القريبة. وفي مجال مختلف يقدم [كتاب] فرانشيسكا دي هان (Francesca de Haan) “الجندر وسياسة العمل المكتبي: هولندا بين عامي 1860م- 1940م (Gender and the Politics of Office Work: The Netherlands 1860–1940 (1998)) مثالا مفصلا للعلاقات بين الذكور والإناث في قطاع الخدمات الهولندي. إذ كان الموظفات في المكاتب اللائي يوصفن بالمهارة والعمل الدؤوب والحاجة إلى المال يتعرضن للمضايقات وقلة الأجور ومحدودية فرص العمل وعدم الثقة بهن كعاملات. وفي الوقت نفسه، كان يُنظر إلى الرجال على أنهم بطبيعة الحال مؤهلين للعمل في المكاتب، خاصة فيما يتعلق بالترقيات والمناصب الإدارية. وكان يُنظَر إلى المهن باعتبارها جندرية بنفس القدر: فقد وصف [كتاب] كريستين روان (Christine Ruane) “الجندر، والطبقة، والتوظيف لمعلمي المدن الروسية بين عامي 1860م-1914م (Gender, Class, and the Professionalization of Russian City Teachers, 1860-1914(1994))”، الظروف الخاصة التي أنتجت التدريس كمهنة مرتبطة بالجندر. إذ كان يمكن للنساء التدريس فقط في المدن، ويجب أن يظللن بلا زواج، وكان يقال لهن أنهن بحاجة إلى تدريب إضافي لكي يكنَّ لائقات للعمل.
ونظرًا لأن نظرية الجندر لفتت الأنظار إلى اللغة، فإن التاريخ الاجتماعي حتى للطبقات العاملة أو الجماعات العرقية أخذ جوانب كثيرة من التاريخ الثقافي بل اندمج معه أحيانا. فمثلا كانت السير الذاتية للعمال، التي كان يُشتبه بها بسبب طبيعتها النخبوية والاستثنائية في السبعينات، لديها إمكانيات جديدة مع فاعلية اللغة كموضوع للتحقيق. استكشف [كتاب] ماري جو ماينيز (Mary Jo Maynes) “امتطاء الطريق الصعب: مسيرة الحياة في السير الذاتية للعمال الفرنسيين والألمان في عصر التصنيع ( Taking the Hard Road: Life Course in French and German Workers’ Autobiographies in the Era of Industrialization (1995))” التعبيرات عن الاختلاف بين الجنسين في مسيرة حياة النساء والرجال العاملين واستخدم الوسائل الأدبية بدلا من الإحصائية. كما درس كتاب بولا إي. هايمان (Paula E. Hyman) “الجندر واستيعابه في التاريخ اليهودي الحديث (Gender and Assimilation in Modern Jewish History (1995))” الطريقةَ التي تخلص بها الرجال اليهود في أوروبا والولايات المتحدة من دورهم التقليدي في الترويج للثقافة اليهودية علنًا. وقد أنتج هذا الموقف من معاداة السامية إعادة تعريف الأنثى اليهودية باعتبارها الدعم الحصري لتلك الثقافة، وباعتبار الأسرة وليس المجال العام موقعًا لها. أعاد هذا التغيير في الثقافة تشكيل الجندر والدور الاجتماعي للرجال والنساء.
منذ [صدور كتاب] إي.ب. طومسون (E. P. Thompson) “صُنِع من الطبقة الإنجليزية العاملة (Making of the English Working Class (1963))”، اكتسب الدين مكانة في التاريخ الاجتماعي، لكن نظرية الجندر جعلت التجربة الدينية للنساء مهمة تمامًا مثل تجربة الرجال التي ركز عليها طومسون. لقد أظهر [كتاب] فيليس ماك (Phyllis Mack) “النساء الحكيمات: نبوءة السعادة في إنجلترا (VisionaryWomen: Ecstatic Prophecy in Seventeenth-Century England) و [كتاب] ديبورا فالينز “الأولاد والبنات النبويين (Prophetic Sons and Daughters (1985))” البروتستانتيةَ الشعبية التي تقدم مساحة يمكن أن تتغير فيها الأدوار الجندرية إلى حد ما في الفترات الحديثة وبواكيرها. كما بحث [كتاب] داجمار هرتسوغ (Dagmar Herzog) “الحميمية والإقصاء: السياسة الدينية في بادن قبل الثورة (Intimacy and Exclusion: Religious Politics in Pre-Revolutionary Baden (1996))” المناقشاتِ حول القضايا الاجتماعية القائمة على الجندر مثل الزيجات المختلطة، والحياة الجنسية، والعزلة الكهنوتية، والاستيعاب اليهودي باعتبارها محورية ليس بالنسبة للهوية الاجتماعية فحسب ولكن أيضًا بالنسبة لأعلى نطاقات السياسة. وغالبًا ما كانت نظرية الجندر تلعب دورًا موحدًا في ربط القضايا الاجتماعية والثقافية بالسياسة.
بدأت الجدالات حول تاريخ الطبقة الوسطى في تاريخ المرأة بالبحث حول حياتهن اليومية -وخاصة مساهماتهن في الأعمال الخيرية- والدين والنسوية. وسمح تاريخ الجندر بإمكانيات سردية وتحليلية أخرى. على سبيل المثال، يُبيِّن [كتاب] ليونور ديفيدوف وكاثرين هول (Leonore Davidoff and Catherine Hall) “ثروات الأسرة: رجال ونساء من الطبقة الوسطى الإنجليزية بين عامي 1780م-1850م (Family Fortunes: Men and Women of the English Middle Class, 1780–1850 (1987))” تشكيلَ أدوار الرجال والنساء واهتماماتهم وأنشطتهم كمشاريع مرتبطة بالجندر على مدار ما يقرب من مائة عام. وفي المقابل، يرى [كتاب] آن تشارلوت تريب(Anne-Charlott Trepp) “الذكورة اللطيفة والأنوثة المستقلة (Sanfte Männlichkeit und selbständige Weiblichkeit: Frauen und Männer in Hamburger Bürgertum zwischen 1770 und 1840 (1996))” أن هناك تشكُّلًا أقل لثنائية الجندر بين الطبقات العليا في هامبورغ. حيث يتشارك الرجال والنساء في تربية الأطفال، [وفي] الإيمان بالزيجات الرومانسية والقيم العقلانية، والمشاركة في القضايا العامة. وقد أثارت هذه النتائج تساؤلات حول العلاقة بين الممارسات الاجتماعية المشتركة والبُنى القانونية والاقتصادية التي نشأت وفرَضت امتيازات الذكور ودونية الإناث.
اكتسب التاريخ الاجتماعي للمرأة الكثير من حيويته المبكرة من دراسة الحياة المنزلية، وتربية الأطفال، والعمل خارج المنزل -أي العمل الذي يتم في المنزل بمقابل أجر- وجوانب أخرى مما يسمى الفضاء الخاص. ولكن عندما التقت نظرية الجندر بدراسات الفضاء العام في ظل المقاهي والأكاديميات وغيرها من مواقع الحياة المجتمعية، قُدِّم التاريخ الاجتماعي لمجموعة من الدراسات الجديدة. يبيَّن عمل سارة هانلي (Sarah Hanley) عن بواكير فرنسا الحديثة الطرقَ التي صاغ بها امتياز الذكور في الأسرة قوانين الدولة، في حين يُظهر أيضًا [أحوال] النساء في الحياة اليومية وعلى المستوى الجزئي احتجاجًا على هذه الترتيبات. لقد عرضت دينا غودمان (Dena Goodman)، ضمن آخرين، الصالون كمساحة اجتماعية قائمة على أساس الجندر وبالتالي قامت “جمهورية الحروف” على أساس الجندر. كما ادعت إيزابيل هال (Isabel Hull) أن المجتمع المدني والأماكن العامة في ألمانيا في القرن الثامن عشر كان في الأساس من الذكور، مما أدى إلى جندَرة المواطنة[9]. وعلى عكس غودمان وهانلي، ركزت هال على نشاط الذكور وليس النشاط الأنثوي في المجتمع.
جذبت دراسات الحرب العالمية الأولى تحليلا جندريا مكثفًا. إذ بحث [كتاب] سوزان كينغسلي كينت (Susan Kingsley Kent) “صناعة السلام (Making Peace: The Reconstruction of Gender in Interwar Britain (1993)) الحرب باعتبارها أمرًا حاسمًا في إعادة تشكيل العلاقات بين الرجال والنساء، وبالتالي في إنتاج أشكال جديدة من الجنس و السياسة الجنسانية بما يجمع بين التاريخ الاجتماعي والثقافي والسياسي على السواء. فمن وجهة نظر كينت، القضية الناشئة عن الحرب هي كيفية إعادة بناء العلاقات بين الجنسين بعد أن كان الرجال يُقتلون بعيدًا لمدة أربع سنوات، في حين عاشت النساء بشكل أساسي حياة مختلفة للغاية، وغالبا ما كُنَّ يتخيلن الحرب من بعيد. كان لدى النساء وجهات نظر مختلفة حول الجنود وبالتالي حول العلاقات بين الجنسين في وقت السلم اعتمادًا على ما إذا كُنَّ [قد خرجن] إلى المقدمة أو بقين في أرض الوطن. أولئك اللاتي ظللن في أوطانهن كُنَّ يرين الجنود كقتَلة ضمنيًّا أو صراحة، وتبنت النسويات منهن مجالات منفصلة بعد الحرب. وأما هؤلاء النساء القلائل اللاتي رأين جنودًا مشوهين وبأوضاع هستيرية وضعيفة فقد كانت لهن نظرة أكثر تعاطفًا مع الرجال والعلاقات معهم. وهكذا أدت الحرب إلى تعقيد الجندر، حيث لعب الباحثون في المجال الجنسي وغيرهم من الخبراء الاجتماعيين دورًا كبيرًا في “صنع السلام”.
ومع استيعاب نظرية الجندر لمكونات ما بعد الحداثة، التقط بعض المؤرخين الخيط الذي كان يُنظر به إلى الجندر كوسيلة لمعالجة قضايا أخرى غير الجندر، في سياق بحث الحرب العالمية الأولى أيضًا. لقد أظهر [كتاب] ماري لويز روبرتس (Mary Louise Roberts) “حضارة بلا أجناس (Civilization without Sexes: Reconstructing Gender in Postwar France, 1917–1927 (1994))” الطريقة التي سمح بها الصراع على سلوك وخصائص المرأة للمجتمع ككل بمعالجة الألم المذهل الذي عانى منه الفرنسيون في الحرب العالمية الأولى. كان الجندر معلَنًا بينما لم تكن المسؤولية عن الحرب والخسارة التي لا تُحتمل كذلك. لذا بدلا من أن تهدد الحربُ الحضارة، كانت الحضارة مهدَّدة بفقدان تقاليد الأنوثة. يُرجِع أولئك الذين يتبعون هذا النموذج في نظرية الجندر تفسيراتهم للمجتمع بشكل ملموس إلى التاريخ الثقافي، على الرغم من أن التاريخ الاجتماعي غالبًا ما يشكل خلفية غير معلنة.
وقد تأثرت جوانب التاريخ الاجتماعي التي ركزت على الحركات الاجتماعية والاحتجاج بهذه التغييرات بطرق مختلفة. فصارت بواكير الاحتجاجات وأعمال الشغب الحديثة لها مكونات وامتيازت جندرية، مما أدى إلى إنتاج النساء والرجال كعناصر فاعلة اجتماعية. وكان يُنظر إلى الثورة الفرنسية (لا سيما في عمل جوان لانديس ولين هانت (Joan Landes and Lynn Hunt)) باعتبارها ترسم العلاقات الأسرية والخيالات على المشهد السياسي. رأى [كتاب] “أصوات جديدة في الأمة (New Voices in the Nation: Women and the Greek Resistance, 1941–1964 (1996) )” لجين هارت (Jane Hart) جندَرَة الهوية الوطنية في الحركات الاجتماعية أيضًا. كما شهد عمل أتينا غروسمان ودونا كارش (Atina Grossman and Donna Karsch) بناء وكالة اجتماعية في الاحتجاجات الجندرية التي تتمحور حول الإجهاض، وتحديد النسل، وغيرها من الحقوق الاجتماعية. واستكشف [كتاب] كيت لاسي (Kate Lacey) “العادات الأنثوية (Feminine Frequencies: Gender, German Radio, and the Public Sphere, 1923–1945 (1996)) العلاقة بين التكنولوجيا والفضاء العام والسلوك الاجتماعي للمرأة.
لقد حاول أحد تيارات نظرية الجندر التمييزَ بين الجندر والجنس، وقد تزامن ذلك مع الاهتمام بالجنسانية والجسد كمكونات لكل من الجندر والتاريخ الاجتماعي. واستخدم جزء من تاريخ الجنسانية والجسد هذه المجالات لإظهار نمو البيروقراطية حول الجنس والجندر. حيث وصف [كتاب] جيمس فار (James Farr) “السلطة والجنسانية (Authority and Sexuality in Early Modern Burgundy (1995))” تجريم أنواع مختلفة من السلوك الجنسي بوصفه فعلًا للدولة الأبوية التي تخلق كلًّا من الجندر وسلطته وتحافظ عليهما. كما وصف [كتاب] سابين كينيتز (Sabine Kienitz) “الجنس والسلطة والأخلاق (Sexualität, Macht, und Moral: Prostitution und Geschlechter erzieungen Anfang des 19. Jahrhunderts in Württemburg (1995))” تأكيد البيروقراطيين بعد [حكم] نابليون فرض سلطاتهم على منطقة جديدة عن طريق تجريم الممارسات الجنسية والاجتماعية طويلة الأمد. وما كان ساريًا من استخدام النساء الاقتصادي لأجسادهن، والذي يكون مقبولًا في مدينة معينة كجزء من البنية الاجتماعية، استسلم لبناء الدولة.
نجحت نظرية الجندر -أثناء عملها على المستوى الكلي للتاريخ الاجتماعي والسياسي- في إتاحة إجراء دراسات دقيقة عن الجسد لها آثار اجتماعية واسعة النطاق أيضًا. استخدم [كتاب] باربارا ديودن (Barbara Duden) “المرأة من الداخل: مرضى الأطباء في ألمانيا في القرن الثامن عشر (The Woman beneath the Skin: A Doctor’s Patients in Eighteenth-Century Germany (1991))” الكلمات المدوَّنة للمرضى لعرض تجربة للجسد الجندري تتعلق بالطبيب المعالج مختلفة تمامًا عن تلك التي أعلن عنها فوكو في مرحلته الحديثة. وبالتركيز على الخطاب، جادل [كتاب] ليندال روبر (Lyndal Roper) “أوديب والشيطان: السحر والجنسانية والدين في بواكير أوروبا الحديثة (Oedipus and the Devil: Witchcraft, Sexuality, and Religion in Early Modern Europe (1994))” بأن الجسد كان له واقع ملموس ومجرَّب سابق للُّغة ولكنه مع ذلك جنساني. وبناء على هذه التجربة الفردية التي اجتمعت في حركة جماعية، تبلور السحر، والإصلاح الديني، وأشكال أخرى من السلوك الاجتماعي، لا سيما الأشكال الجندرية.
ومن المصاحَبات الملحوظة لنظرية الجندر، دراسة الذكورية باعتبارها قدرًا مبنيًّا واجتماعيًّا وليس بالضرورة أن يكون طبيعيًّا. ومن أول من كتبوا في هذا السياق، في [كتابه] “كُن رجلًا!:الرجال في المجتمع الحديث (Be a Man!: Males in Modern Society (1979))”، فصَّل المؤرخ بيتر ستيرنز (Peter Stearns) الطرق التي تتألف بها الرجولة من مجموعة من القواعد غير المكتوبة التي تدعم الحث الصريح على الرجولة. وباستخدام حالة فرنسا في القرن التاسع عشر، اكتشف روبرت ناي (Robert Nye) مخاوفَ بشأن الذكورة المعيارية. إذ قام بفحص السجلات القانونية والطبية لتحديد أن “الشرف” كان السمة المركزية لهذه الرجولة. ومع ذلك، فقد رأى أن المثلية الجنسية لها جانبها المبنيُّ كذلك، حيث تعمل بمثابة تثبيط للمعيار. وبحلول التسعينات، أضافت دراسات الذكورة العرقَ والاستعمار كمتغيرات. حيث بحث [كتاب] جيل بيدرمان (Gail Bederman) “الرجولة والحضارة: ثقافة الجندر والعِرق في الولايات المتحدة (Manliness and Civilization: The Culture of Gender and Race in the United States, 1870–1917 (1995))” الذكورةَ في الولايات المتحدة في مطلع القرن، ناظرًا إلى البياض والسواد باعتبارهما يتشابكان في تعريفها ومبدعًا نموذجًا للدراسات في التاريخ الاجتماعي الأوروبي. كما بحث [كتاب] مريناليني سينها (Mrinalini Sinha) “الذكورة الاستعمارية (Colonial Masculinity (1995) )” المعاملة البريطانية للرجال البنغاليين واستيعاب هؤلاء الرجال أو تشكيكهم في تلك المعايير. لقد استحضر كلٌّ من سينها وبيدرمان نشاط واستجابات النساء البنغاليين والسودوات. وسمح انفتاح نظرية الجندر، ولا سيما فيما يتعلق بالرجولة، بالتقدم في دراسة الفاشية والنازية. وأصبحت التوتاليتارية[10] تُفهم باعتبارها مجموعة من الممارسات والسياسات الجندرية التي تعمل على أعلى المستويات وتؤثر على الحياة اليومية في المجتمع. وبحلول عام 2000م، حُدِّدَ نطاق للذكورة في كثير من الأماكن والعصور التاريخية.
استُخدِمَت نظرية الجندر للتشكيك في الممارسات التأسيسية للتاريخ نفسه. تعيد نظرية الجندر المطبَّقة على التأريخ وفلسفة التاريخ -ممزوجة بالتاريخ الاجتماعي- النظرَ في الموضوعية والمعايير المعلنة للمهن من حيث نشأتها منذ القرن التاسع عشر. وباستخدام حدود احتجاج التحليل النفسي والأنثروبولوجي، تبحث نظرية الجندر في الممارسات التاريخية بطريقة توازي دراسات العلوم من وجهة نظر اجتماعية وبالتالي تجد مكانتها اللائقة في التاريخ الاجتماعي. وبعبارة أخرى، تستكشف قيم المهن من خلال التحقيق في ممارساتها الفعلية. فقد حكمت هذه الممارسات على الأشخاص غير البيض بأنهم أقل شأنا عندما يتعلق الأمر بالتفكير بموضوعية وعقلانية ووضعت النساء في نفس الفئة. كما أن الوظيفة الحداثية للتاريخ، كمؤسسة اجتماعية، نبذَت النساء إلى حيث يقمن بالكثير من الأعمال غير المعترف بها، إلى حد كتابة تواريخ الرجال الذين يحوزون المفاخر بعد ذلك. ومن خلال هذه الممارسات، تتجندر الوظائف، بما يجعل الرجال فئة متفوقة من المهنيين والنساء فئةً دنيا من الناسخين غير المطلعين، والملاحظين، وأحيانًا القراء لأعمال الرجال. كما سمحت نظرية الجندر بفهم الطريقة التي تتميز بها الموضوعات المتعلقة بالرجال، بمجرد تأسيس التسلسل الهرمي من الذكور إلى الإناث. فنظرًا لأن الرجال مهمون، كان تاريخ الرجال في حد ذاته أكثر “أهمية” من تاريخ النساء، اللاتي تأسسن بالفعل باعتبارهن بلا أهمية في التسلسل الهرمي للجندر. وإلى جانب الموضوعية وتكافؤ الفرص في المهن ظهرَ التحيز الجنسي التأسيسي. تسمح نظرية الجندر كذلك بقراءة لماذا يُنظر إلى التاريخ الاجتماعي على أنه أقل أهمية من التاريخ السياسي، وبتحليل هذا التسلسل الهرمي بين الباحثين.
إن نظرية الجندر تهم أقلية من المؤرخين فحسب. ويعتقد كثير من المؤرخين الاجتماعيين أيضًا أن قيمتها ضئيلة، حيث إن تاريخ الحركات الاجتماعية، والعمل، والسلوك الديني، والجريمة، والتعليم، والموت، والمهن، والمجموعات العرقية، والرياضة، والجوانب الأخرى للحياة الاجتماعية، لا تذكُر الجندر. وبالتالي فإن معظم هذه الأعمال تعني ضمنيًّا أن تجربة الذكَر هي الشيء الوحيد المهم أو أنها يمكن أن تمثل تجربة الجميع. لا يناقش الآخرون الجندر لأنهم يريدون التركيز على الطبقة أو العرق أو قضايا أخرى، ولا يرون أن هذه الفئات تطورت جنبًا إلى جنب مع الجندر، كما يعتقد كثير من منظِّري الجندر. ومع ذلك، فإن جميع التحريفات في نظرية الجندر يمكن أن تُقرأ بطريقة جندرية، حيث يُنظر إلى الطبقة والعرق باعتبارها فئات ذكورية متفوقة، في حين يُنظر إلى الجندر باعتباره أدنى. وأخيرًا، ليست كل التواريخ التي تتعامل مباشرة مع النساء تستخدم نظرية الجندر بأي طريقة واعية. قد تتقدم تجريبيًّا، بقليل من المراجع التاريخية الأوسع. وقد تدعم تعددية نظرية الجندر وتعقيدها هذه الفجوة. بيد أنه منذ منتصف الثمانينيات، ازداد استخدام النظرية في التعامل مع النساء (وأحيانًا الرجال) في التاريخ، مما وفر إطارًا مفاهيميًا أكثر ثراءً ووسيلةً جديدة لربط موضوعات تاريخية محددة بقضايا ومقارناتٍ أوسع.
المراجع:
.Beauvoir, Simone de. The Second Sex. Translated and edited by H. M. Parshley. New York, 1952
Bederman, Gail. Manliness and Civilization: A Cultural History of Gender and Race in the United States, 1870–1917. Chicago, 1995
Bernstein, Laurie. Sonia’s Daughters: Prostitutes and Their Regulation in Imperial Russia.Berkeley, Calif., 1995
Butler, Judith. Gender Trouble: Feminism and the Subversion of Identity. New York, 1990
Davidoff, Leonore, and Catherine Hall. Family Fortunes: Men and Women of the English Middle Class, 1780–1850. Chicago, 1987
Duden, Barbara. The Woman beneath the Skin: A Doctor’s Patients in Eighteenth-Century Germany. Translated by Thomas Dunlap. Cambridge, Mass., 1991
Farge, Arlette. Fragile Lives: Violence, Power, and Solidarity in Eighteenth-Century Paris.Translated by Carol Shelton. Cambridge, Mass., 1993
Foucault, Michel. History of Sexuality. Translated by Robert Hurley. New York, 1978
Haan, Francesca de. Gender and the Politics of Office Work: The Netherlands 1860–1940.Amsterdam, 1998
Herzog, Dagmar. Intimacy and Exclusion: Religious Politics in Pre-Revolutionary Baden.Princeton, N.J., 1985
Hull, Isabel V. Sexuality, State, and Civil Society in Germany, 1700–1815. Ithaca, N.Y., 1996
Hyman, Paula E. Gender and Assimilation in Modern Jewish History: The Roles and Representation of Women. Seattle, Wash., 1995
Irigaray, Luce. This Sex Which Is Not One. Translated by Catherine Porter with Carolyn Burke. Ithaca, N.Y., 1985
Kent, Susan Kingsley. Making Peace: The Reconstruction of Gender in Interwar Britain.Princeton, N.J., 1993
Lacey, Kate. Feminine Frequencies: Gender, German Radio, and the Public Sphere, 1923–1945. Ann Arbor, Mich., 1996
Lévi-Strauss, Claude. Elementary Structures of Kinship. Translated by James Harle Bell, John Richard von Sturmes, and Rodney Needham. Boston, 1969
Liu, Tessie P. The Weaver’s Knot: The Contradictions of Class Struggle and Family Solidarity in Western France, 1750–1914. Ithaca, N.Y., 1994
Mack, Phyllis. Visionary Women: Ecstatic Prophecy in Seventeenth-Century England.Berkeley, Calif., 1992
Mead, Margaret. Coming of Age in Samoa: A Psychological Study of Primitive Youth for Western Civilization. New York, 1928
Perrot, Michelle, ed. Une histoire des femmes est-elle possible? Paris, 1984
Riley, Denise. “Am I That Name?”: Feminism and the Category of “Women” in History.Minneapolis, Minn., 1988
Roberts, Mary Louise. Civilization without Sexes: Reconstructing Gender in Postwar France, 1917–1927 Chicago, 1994
Roper, Lyndal. Oedipus and the Devil: Witchcraft, Sexuality, and Religion in Early Modern Europe. London and New York, 1994
Rubin, Gayle. “The Traffic in Women: Notes on the ‘Political Economy’ of Sex.” In Feminism and History. Edited by Joan Wallach Scott. Oxford and New York, 1996. Pages 105–151
Scott, Joan Wallach. Gender and the Politics of History. New York, 1988
Scott, Joan Wallach. Only Paradoxes to Offer: French Feminists and the Rights of Man.Cambridge, Mass., 1996
Sinha, Mrinalini. Colonial Masculinity: The “Manly Englishman” and the “Effeminate Bengali” in the Late Nineteenth Century. New York, 1995
مركز باحثات لدراسات المرأة
*عن المؤلفة: مؤرخة أمريكية متخصصة في دراسات المرأة، وأستاذة التاريخ بجامعة روتجرز.
[1] نسبة إلى فرويد. (المترجمة).
[2] نسبة إلى نيتشه. (المترجمة).
[3] نسبة إلى فوكو. (المترجمة).
[4] نسبة إلى لاكان. (المترجمة).
[5] دراسة أصوات النساء. (المترجمة).
[6] بمعنى أنه لا ينبغي الاستسلام لها دون محاولة للتغيير. (المترجمة).
[7] أي وضع الذكورية. (المترجمة).
[8] تشير الكاتبة إلى مقالة سبيفاك: “هل يستطيع التابع أن يتكلم؟”، وهي من أهم المقالات الرائدة في التنظير ما بعد الكولونيالي والذي يتقاطع مع التنظير النسوي في مساحة ليست صغيرة. والمقالة مثال قوي على توظيف نظرية التفكيك في الدراسات النسوية والجندرية، فسبيفاك من أقطاب المتأثرين بجاك دريدا. (المترجمة).
[9] فيكون المواطن الذكَر أفضل وأعلى منزلة من المواطِنة الأنثى باعتبار الذكر له نصيب أكبر في المجتمع المدني والأماكن العامة. (المترجمة).
[10] يُترجم هذا المصطلح إلى “الشمولية”، لكن له ارتباطا سياسيا اجتماعيا، إذ يشير إلى الدولة الشاملة التي تناهض الليبرالية وتسيطر على المجتمع وتسعى إلى نظام كلي واتحاد بين الدولة والمؤسسات الاجتماعية. (المترجمة).