“نريد الجنس لا الجندر”، ليس هذا اسماً لأغنية أو عنواناً لكتاب، وإنما شعار رفعته حركة “المظاهرة لأجل الجميع – La Manif Pour Tous “، وهي حركة اجتماعية فرنسية تأسست عام 2012م؛ للدفاع عن الغيرية الجنسية، تطالب بإعادة الاعتبار للطبيعة البيولوجية والفطرة الإنسانية، وتحذر من تداعيات ترسيخ مفهوم الجندر -بالتحديد- في المؤسسات وبخاصة التعليمية؛ حفاظاً على بقاء واستمرارية المجتمعات. وقد وضعت على غلاف العدد الصادر عنها في نوفمبر 2013 اسم الحركة يعلوه رجل وامرأة بصحبتهما طفلين ذكر وأنثى؛ ترسيخاً للتنوع البيولوجي في مواجهة الجندر[1]. وللمفارقة جاء ميلاد الحركة في ذات البلد الذي انطلقت منه الوجودية سيمون دي بوفوار، صاحبة المقولة الأشهر “لا يولد المرء رجلاً أو امرأة، بل يصبح كذلك”، في كتابها “الجنس الثاني” عام 1949م، والذي حللت فيه العلاقة بين المرأة والرجل على أسسٍ وجوديةٍ ماركسيةٍ، تدعو وتطالب بحريّة اختيار الإنسان لماهيته، واضعة أساس الفصل بين البيولوجي والدور الاجتماعي.
مرت حوالي سبعة عقود ما بين تلك المقولة التي فتحت الباب على مصراعيه للجندر، وبين رجوع الناس إلى بعض من فطرتهم بعد أن ذاقوا الويلات. وخلال هذه العقود السبعة تطور المفهوم تطوراً هائلاً، وسقط في قبضة الصيرورة لتتغير استعمالاته بشكل دائم، كما تعددت المفاهيم المشتقة منه. لكن هذه الوفرة المفاهيمية جاءت مشوشة بما يكفي لأن تنم ليس عن تطور مفاهيمي، بل عن قلق وجودي، فحتى اللحظة الراهنة لم يتم الاتفاق على ماهية المفهوم!!
وهكذا فعلت الحركة النسوية في المرأة، فقد ظلمتها وهي تظن أنها تنصرها. لقد أحالتها في نهاية المطاف إلى “نوع” من ضمن “الأنواع” مكتف بذاته، لا يعي شيئا عن حقيقته الوجودية، فَصَلتها عن شقها الآخر الذي بتآلفهما معا داخل النفس الواحدة يصير كل منهما إنساناً، ثم انفردت بها لتستمر في تفكيك ما تبقى من كينونتها، فأعملت معاول الهدم في كافة ما يميزها كامرأة، ولم يبق إلا النذر اليسير في مسيرة البشرية –إن لم يستفق البشر من خرافة المرأة الضحية– للوصول إلى مرحلة ستصير فيها المرأة شيئا من مخلفات الماضي، فحتى مطالبات مساواة المرأة بالرجل صارت “مساواة الجندر”.
كيف تم هذا؟ فلنستقل حافلة الرحلة من بدايتها، ونفهم ما هو الجندر، وكيف حدث انشقاقه وانزياحه عن الأصل، حتى أزاح الأصل ذاته بمطلع القرن الواحد والعشرين، حيث صار “الجندر” يحل محل “الجنس” كمصطلح يشير إلى الاختلاف الجنسي بالمعنى البيولوجي في كل من النظرية النسوية والخطاب الشعبي!!
أيضا ًعلينا معرفة من هو الداعم الرئيس لتبني وذيوع هذا المفهوم، وذلك عبر المحاور التالية:
أولاً: الجنس والجندر: الدال والمدلول
الدال هو الصورة اللفظيّة لأيّ كلمة. أمّا المدلول فهو المضمون، وهو الصورة الذهنية أو الفكرة عن الشيء، أي صورة في العقل تُستدعى وتوضع إزاء دالّ معيّن.
وكلمة الجنس تُشير إلى الاختلافات البيولوجيَّة والفسيولوجيَّة والنفسيَّة بين الجنسين، فيما يتعلق باختلاف الكروموسومات والهرمونات والأعضاء الجنسيَّة الداخليَّة والخارجيَّة[2]، فوِفق مدلولات الجنس هناك عدة خصائص مكتسبة وطبيعيَّة تحدد صفات كل جنس وتحدد هويته، وهي المتمثلة في الفروق البيولوجيَّة.
بينما الجندر يشير إلى البنية الاجتماعية والثقافية، وتصير الفروق الجندرية (باختلاف عن الفروق البيولوجية) كما جاء في المعجم النِّسوي “Gender Differences: الصفات والخصائص المجتمعيَّة التي تتصل بالسلوك والمظهر، والملبس، والتَّعبير، والأدوار، وغيرها من الصفات التي تتقرر عند الولادة وتحدد جنس الأفراد[3].
وثمة تعريف آخر للجندر بأنه “تعريف الشخص لذاته على أنّه أنثى أو ذكر أو ثنائي الجنس (Intersex)، مقابل الجنس، وهو ما يُحدَّد بالاعتماد على الأعضاء التناسلية أو الأعضاء التناسلية المحتمل امتلاكها، سواءً كان ذلك تبعًا للنمط الظاهريّ أو الجيني”[4].
بعبارة أخرى، صار مرد هوية الشخص ذاته، فهو الذي يقرر ما يرغب أن يكونه، وكلا التعريفين اتفقا في الجنس، بأنه البيولوجي والذي تظهره الصفات التشريحية، لكن اختلفا في ماهية الجندر ومن يحدده الشخص ذاته أم المجتمع؟ نقطة الاتفاق تكمن في كون تشكيل الهوية ليست البيولوجيا!!
وعليه يمكن ذكر مجموعة من الاختلافات بين المفهومين:
تقول تقول شيري أورينتر: “إن من خصائص الذات الأنثوية أنها أقل إصراراً على التمييز بين الذات والآخر، وأنها تتسم بالتوجه نحو الحاضر أكثر من المستقبل، وبقدر أكبر نسبياً من الذاتية وبقدر أقل من الموضوعية، إن الرجال أكثر اتجاهاً نحو الموضوع، أما النساء فأكثر ذاتية وأكثر اتجاهاً نحو الأشخاص… إن تلك الفوارق ليست متأصلة في جبلة الأفراد، ولا هي مبرمجة مسبقة في جيناتهم، لكنها تنشأ من سمات هيكل الأسرة”[6].
ثانياً: الجندر: المنشأ والتطور والقلق المفاهيمي
لا يعلم أحد بالتحديد متى وأين اُستعمل مصطلح “جندر”، للإشارة إلى الجوانب الاجتماعية والثقافية للاختلاف الجنسي. لكن مفردة الجندر اشتقت من المفردة اللاتينيَّة التي تعني النّوع أو الأصل (genus)، ثم تحدر سلاليا عبر اللغة الفرنسيَّة في مفردة (gender) التي تعني بدورها النوع أو الجنس، “وقد توسع استعمال هذا المفهوم في الأدب لتقسيم وتصنيف الأجناس الأدبيَّة، كما تم تحديد النوع البشري عبره من حيث التَّذكير والتَّأنيث”[9].
وكما الأدب، استعمل المفهوم في علم الجنس رغم أنه حتى عام 1950م كان الاستعمال الدارج هو مصطلح “الجنس”، حيث لم يظهر مصطلح “جندر” في كتاب أليكس كومفورت المعنون بـ: السلوك الجنسي في المجتمع Sexual Behaviour in Society إلى أن تم تنقيح الكتاب بعد ثلاثة عشر عاماً أي 1963، عندما أضاف المؤلف مناقشة مختصرة لما أسماه “الأدوار الجندرية”[10].
وفي الستينيات أدخل عالم النفس روبرت ستولر، المفهوم إلى علم النفس؛ وذلك ليفرق بين العوامل الاجتماعية والنفسية للأنوثة والذكورة في المجتمعات، وبين العوامل البيولوجية الطبيعية للفروق الجنسية التي خُلقت مع الأفراد في سياق عمله مع الأشخاص الذين صُنِّفوا كمتحولين جنسيًّا.
حيث أشار إلى دور التنشئة وبيئة الطفل في شعور الطفل بهويته، وقد استخدم مصطلح “الهوية الجندرية gender identity “[11].
وفي عام 1972م التقطت النسوية طرف الخيط لتنسج على منواله منظومة الجندر، وذلك حين استخدمت آن اوكلي ann oakly المفهوم بالمعنى التالي: “تحيل كلمة جنس إلى الفوارق البيولوجية بين الذكور والإناث، وإلى الفرق الظاهر بين الأعضاء الجنسية، وكذا إلى الفروق في ارتباطها بوظيفىة الإنجاب. أما الجندر فإنه معطى ثقافي، فهو يحيل إلى التصنيف الاجتماعي وترتيبه للمذكر والمؤنث”[12].
ثم تتابعت التنظيرات فيما بعد حول الهوية الذاتية، بين المطالبة بالمساواة المطلقة، وبين التأكيد على اختلاف الجنسين، وأخرى تتجاوز المساواة إلى التعددية، وحق اختيار نوع الجنس، والشذوذ، والمثلية.
ونهلت النسوية من الفكر النقدي الشكي لميشيل فوكو حتى الثمالة، بما فيه وصف فوكو “للهوية بأنها مبنيَّة”، وأن التحرر يبدأ من مقاومة السلطة، ويجب أن يكون هدف المقاومة هو “أن نرفض ما نحن عليه، أي أن نكسر القيود المفروضة علينا من قِبَل تصنيفات تطبيع الهوية. وقد قابلت النسويات فكرة فوكو عن المقاومة من جهة كونها تتألف -في المقام الأول على الأقل- من رفض للهوية الثابتة أو المستقرة أو المجنَّسة ببعض الشكوك”[13].
ثم تاهت هوية المرأة تماماً، وصارت الاختلافات أكثر حدّة مع ظهور أشكال جديدة من الجندرة، التي انبثقت في ضوء الجندرية العابرة، والجندرية المتحوّلة، والأبوّة/أو/الأمومة المثلية، والهويات الجديدة للمرأة المترجلة، وكيف ولماذا تصبح بعض السحاقيات المترجّلات، بدلاً من آباء /أو/ أمّهات، تصبحن “بابوات و “ماموات”؟ ومزيد من التيه مع الفكرة التي اقترحتها كيت بورنشتاين، المتمثلة في أنّ كائنا متحوّلا جنسيّا لا يمكن أن يوصَف بواسطة اسم “امرأة” أو “رجل”، بل ينبغي أن تتم مقاربته عبر أفعال مضارعة تشهد على التحوّل المستمر الذي “هو” الهوية الجديدة، أو في واقع الأمر “حالة البين-البين” التي من شأنها أن تضع كينونة الكائن المُجندَر[14].
ثالثاً: من يدعم تطور مفهوم الجندر؟
إنّ الغموض الذي يكتنف مفهوم الجندر يؤهّله لخدمة كل أنواع المطالبات، فالجندر هو الوعاء الذي يتسع ليضم بداخله فئات تختلف إيديولوجياً في كثير من الجوانب، ولكن تتشابك المصالح وتتطابق الأهداف:
إن كل هؤلاء ينظرون إلى الجندر على أنه الخلاص من الهيمنة والتراتبية: تراتبية الرجل على المرأة، تراتبية مغاير الجنس على الشاذ، تراتبية الفرد المستقيم على من هو غير ذلك…
وتصير الهويات الجنسية (المضطربة) شيء طبيعي، فالفكرة القائلة بأنه ليس هناك إلا جنسان تصير من مخلفات الماضي، بل مقولة تصير خطراً على صاحبها، كالشعار الذي ترفعه الأجيال الجديدة من حركة تحرر المثليين.
” كل رجل مغاير هو هدف لتحرر المثليين”[19]، فالوصم يتم رفعه من على هذه الفئات ليلحق بمن يعترض على حق هؤلاء في إبراز هوياتهم. بل وفي ظل الجندر لن تقتصر المزايا الممنوحة اجتماعياً على الطبيعيين، فالشرعية يتم سبغها على الجميع.
لقد أثبت الغرب إمكان نسف البيولوجي من خلال الثقافي، ولكن تبقى الثنائية والغيرية هي السائدة عبر تاريخ البشر، حتى في زمن السيولة حافظت الثنائية على حضورها، “حتى إن أخذنا وسائل التخصيب الحديثة في عين الاعتبار، يبقى البيولوجي حاضرًا، ولا يمكن الاستغناء عنه، فلإنتاج مخلوق بشري لابد لك من بويضة وحيوان منوي، هذا الحضور الدائم للبيولوجي، يجعل تجاوزه صعبًا، بل تعاميًا وقفزًا على الحقائق المادية الصلبة التي بين أيدينا”[20].
أما عن تداعيات ذلك، وأسباب التمسك بالجندر رغم كارثيته، فهذا ما نفرد له مقالاً آخر بمشيئة الله، فما زال للحديث بقية…
مركز باحثات لدراسات المرأة
[1] راجع: https://bit.ly/2yKIBGH .
[2] دليل الناقد الأدبي، ص150.
[3] عبد النور إدريس، النقد الجندري تمثلات الجسد الأنثوي في الكتابة النِّسائيَّة، تونس: دار فضاءات- تونس، ط1، 2013م، ص94.
[4] ترجمة: دانيا الدخيل. تدقيق: تسنيم المنجّد، تحرير: رؤى درخباني، https://ibelieveinsci.com/?p=43023.
[5] انظر: https://bit.ly/2JLqtyK .
[6] شيري أورنتر، هل المرأة بالنسبة للرجل كالطبيعة بالنسبة للثقافة، في: هانيا شلقامي (محررة)، دراسة النوع والعلوم الاجتماعية، سلسلة ترجمات نسوية (4)، القاهرة: مؤسسة المرأة والذاكرة، 2015، ص34.
[7] اعتبر رائد علم الاجتماع تالكوت بارسونز أن العائلة المستقرة تدعم أطفالها من أجل ضمان تنشئة اجتماعية ناجحة لهؤلاء الأطفال. وهذه العـائلات المستقرة هي التي يقسم فيها العمل بين الجنسين بطريقة واضحة، بحيث توفر الإناث العنــاية والأمن للأطفال، وتقدم لهم الدعم العاطفي. أما الرجل فيقوم بأدوار الإنتاج وإعالة الأسرة ماديا بالعمل البراني، الذي يتعرض فيه لصعوبات ومشاكل تكون فيها النزعة التعبـيرية الأنثوية بمثابة المهدئ الذي يفرج عن الرجل، وهذا في نظره تقسيم تكاملي للعمل يؤدي إلى الاستقرار.
رشيد لبيض، النوع الاجتماعي: مفهومه، نظرياته، وتمثلاته، الحوار المتمدن، العدد 4205، 4-9- 2013.
[8] انظر: https://bit.ly/2wlaOTw .
[9] لمزيد من التفاصيل، انظر: ميجان الرويلي، وسعد البازعي، دليل الناقد الأدبي، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2002، الطبعة الثالثة، ص149 – 154.
[10] خضر حيدر، مفهوم الجندر: دراسة في معناه ودلالاته وجذوره وتياراته الفكرية، بيروت: مجلة الاستغراب، العدد 16، 1440هـ- 2009م، ص282.
[11] Aurelia Armstrong, Michel Foucault: Feminism, available at: https://www.iep.utm.edu/foucfem
[12] رشيد لبيض، مرجع سبق ذكره.
[13] Aurelia Armstrong, Michel Foucault: Feminism, available at:
https://www.iep.utm.edu/foucfem/
[14] لمعرفة ماهية هذه المصطلحات ذات الصلة بمجتمعها ويعف القلم عن ذكرها، انظر:
جوان باركلي، كاليفورنيا، 1999، على هذا الرابط: https://bit.ly/3e3WLmv .
[15] Aurelia Armstrong, Michel Foucault: Feminism, available at:
https://www.iep.utm.edu/foucfem/
[16] انظر: https://bit.ly/2VwPYcp.
[17] انظر: https://bit.ly/3cmKrfl.
[18] جادل د. هيرب جولدبرج في كتابه مخاطر أن تكون رجل (hazards of being male)، بأنه يتم التحكم في الرجال وتشكيلهم من خلال الأسرة والمجتمع، وعادةً ما تشجع النساء قيام الرجال بأدوار متناقضة، كأن يكون رجل أعمال عنيف وزوج مُرهف في وقت واحد؛ أو أن يكون المصدر الأساسي للدخل وأن يكون أبًا منتبهًا لأطفاله؛ أو أن يكون الحامي الشجاع لأسرته وبلده وفي نفس الوقت لديه قدرة على ممارسة الحميمية، ويضيف قائلًا أن مثل تلك القيود المستحيلة تشلّ الرجال عاطفيًا وجسديًا، المرجع السابق.
[19] المرجع السابق.
[20] انظر: https://www.7iber.com/society/queer-theory/