تأليف: برنيس ل. هوسمان*.
ترجمة: زينب صلاح.
الجندر والأدوار الجندرية
يشير مصطلح “الجندر”[1] إلى البناء الاجتماعي للجنس أو اللوازم النفس-اجتماعية للهوية الجنسية. وقد اعتمدَت النسويات خصوصًا على الفروق بين الجنسين بوصفها بيولوجية وعلى الجندر بوصفه ثقافيًّا؛ لتجادل بأن اضطهاد النساء ثقافي وليس حتميًا. ولكن في بداية القرن الواحد والعشرين، صار “الجندر” يحل محل “الجنس” كمصطلح يشير إلى الاختلاف الجنسي بالمعنى البيولوجي في كل من النظرية النسوية والخطاب الشعبي. هذا التعريف المتغير هو نتيجة -ولو جزئية- لإدخال الجندر إلى الخطاب الحديث كمفهوم طبٍّي يُستخدم لتفسير إحساس الشخص بالهوية التي يعيش أو تعيش بها [كمُنتمٍ إلى] جنس. ولأن المجتمع الغربي يبحث عن تفسيرات بيولوجية لجميع السلوكيات الاجتماعية تقريبا، فيصعب الاستمرار في التفريق بين الجنس والجندر.
الجندر كمفهومٍ طبِّيٍ
لقد استُخدِم مصطلح “الجندر gender” على مدار قرون كتعبير لطيف عن “الجنس sex”، ولكن لم يسبق استخدامه بمعنى النظير النفس-اجتماعي للجنس البيولوجي. وقد ابتدأت معالجةُ القرن العشرين للتداخل الجنسي (الخنوثة) تغييرًا في إدراك الجسد الجنسي، بالإضافة إلى تغيير الاستخدام اللغوي لمفهوم الجندر.
لطالما حيَّر الأشخاص الذين تُظهِر أجسادهم علامات تشريحية لكل من الذكورة والأنوثة الأطباءَ وأقلقوا الناس كذلك. فمنذ القرن التاسع عشر، كان يُفهم أن جنس الغدد التناسلية (وجود أيٍّ من الخصيتين أو المبيضين) يحدد الانتماء الجنسي للأشخاص في حالات ثنائيي الجنس، ولكن في منتصف القرن العشرين بدأ الأطباء يولون مزيدا من الاهتمام للشعور المحسوس بالجنس أو “الهوية الجنسية النفس-اجتماعية” لهؤلاء المرضى عند تحديد خيارات العلاج المناسبة. وقد أدى التطور المبكر في القرن العشرين لكل من جراحات التجميل وعلم الغدد إلى تمَكُّن الأطباء من معالجة المرضى الذين يعانون من الجنس الثنائي، بحيث تُشابِه أجسادهم التركيبَ الجنسي التشريحي والفسيولوجي لمعظم الذكور أو الإناث. ولبدء هذه المعالجة، باستخدام جراحات التجميل للأعضاء التناسلية والتحضيرات الهرمونية، احتاج الأطباء مجموعة من الأنظمة التي تسمح لهم بتجاوز الحقيقة الطبية السابقة، والمتمثلة في أن جنس الغدد التناسلية هو أهم محدد لتعيين الجنس.
طوَّر مجموعة من الباحثين العاملين في جامعة جون هوبكينز (Johns Hopkins University) في خمسينيات القرن العشرين نظامًا استخدموا فيه مصطلح “الجندر” كطريقة لتحديد إحساس المريض بذاته أو بذاتها كرجل أو امرأة. جادل هؤلاء الباحثون، والذين كان من أبرزهم عالم النفس جون موني (John Money) بأن إحساس الطفل بنفسه أو بنفسها [كمُنتمٍ إلى] جنس (أي نوعه أو نوعها) لا يترسخ قبل سن الثانية تقريبا؛ إذ يفترضون أن تحديد جنس الطفل يمكن تغييره بلا ضرر نفسي مخالف للعُرف قبل ذلك العمر. علَّق موني في وقت لاحق، في مقابلة مع مجلة أومني (Omni) أنه استخدم مصطلح “الجندر” بسبب استخدامه المسبق في الفيلولوجيا[2] (see Stein). في الاستخدام المبدئي لموني، ظهر الجندر في سياق من الفهم الفضفاض لـ “الدور الجندري gender role”، وهو مصطلح يستورد من المصطلح المهم لعالم الاجتماع تالكوت بارسونز (Talcott Parsons) “الدور الجنسي sex role”. يشير “الدور الجندري” إلى سَنِّ الذات لقوانين سلوكية تتعلق بتوقعات الأدوار، ولكنه لا يربط هذه التوقعات بالجنس (والجسد) بل بشعور الفرد بذاته كعضو من فئة جنس [معين].
في ستينيات القرن العشرين، أعاد المحلل النفسي روبرت ستولر (Robert Stoller) توجيه الخطابات المتعلقة بالجنس إلى الهوية، خاصة في سياق عمله مع الأشخاص الذين صُنِّفوا كمتحولين جنسيًّا. لكن ستولر استخدم [مصطلح] “الهوية الجندرية gender identity” بطريقة تشبه كثيرا الطريقة التي استخدم بها موني [مصطلح] “الدور الجندري” -لتحديد شعور الشخص بذاته أو بذاتها [كمُنتمٍ إلى] جنس. سعى كل من ستولر وموني إلى التفريق بين هذا الشعور بالذات الذي يتطور بعد الميلاد وبين المكونات البيولوجية للهوية الجنسية (الغدد التناسلية، والهرمونات، والتراكيب التناسلية الداخلية، والكروموسومات الجنسية، والخصائص الجنسية الثانوية). وقد مهَّد تركيزهما على التنشئة -فكرة أن المكونات النفس-دينامية لبيئة الطفل، بما في ذلك الآباء ومقدمو الرعاية الأساسيون والثقافة عمومًا، أمورا محورية لتطوير الجندر بوصفه هوية- الطريقَ للتخصيص النسوي لأفكارهما لخدمة البحث في تبعية النساء باعتبارها شأنًا اجتماعيًّا ثقافيًّا.
الجندر كمفهومٍ نسويٍّ
أرسَت ثلاث منشورات في سبعينيات القرن العشرين حجر الأساس للاستكشاف النسوي للجندر كمفهوم نظري في الثمانينيات والتسعينيات. فقد دشَّن كتاب آن أوكلي (Ann Oakley) “الجنس والجندر والمجتمع (Sex, Gender, and Society)” المنشور عام 1972م المحاولاتِ النسوية لتنظير العلاقة بين الاختلافات الجنسية البيولوجية وبين البناء الاجتماعي للجندر كنظام متغير تاريخيًّا ليس في صالح النساء. وفي أثناء قبول [فكرة] أن الاختلافات الجنسية موجودة وقد يكون لها تأثير على السلوكيات الاجتماعية للنساء والرجال، أكدت أوكلي بقوة أن الثقافة تفرض معانٍ جندرية وتبقي على الانقسامات الجندرية التقليدية في المجالات التي قد تكون قابلة للتغيير. وفي عام 1975، نشرت غايل روبن (Gayle Rubin) مقالها المهم “الاتجار بالنساء: ملاحظات حول الاقتصاد السياسي للجنس” الذي تضمنَ بصرامةٍ الأنثروبولوجيا البنيوية، والماركسية، وفكر التحليل النفسي، والذي يوضح بفعاليةٍ الارتباطات بين الأجهزة الاقتصادية، والأسرية، والنفسية لتبعية المرأة. وفي عام 1978م، نشرت سوزان كيسلر وويندي ماكينا (Suzanne Kessler and Wendy McKenna) [كتاب] “الجندر: مقاربة إثنوميثودولوجية (Gender: An Ethnomethodological Approach)”، وأوضحتا فيه كيف أن الإيمان بجنسين اثنين فقط يثبت تصورات جديدة عن الجندر؛ وأن التركيز على هذا الإيمان يكشف أن الافتراضات حول الجندر تنبثق من نسبة كل شخص نقابله إلى جنسٍ من حيث المبدأ.
يواصل العديد من الباحثين استخدام روبن المثمر لمفهوم نظام الجنس/الجندر الذي تعرِّفه بأنه مجموعة من الآليات الثقافية التي يتم من خلالها تحويل “المواد الخام” للجنس إلى جندر. وبالإضافة إلى ذلك، ما زال فهم روبن لمركزية تبادل النساء لتبعيتهن، وكذا مشاركتهن المستثمرَة نفسيًّا في بناء هياكل القرابة مساهمةً لفكرة المنظِّرين النسويين عن كيفية مشاركة النساء في الأنظمة الفعلية التي تضطهدهن. إن تأكيد كيسلر وماكينا على أن كل تمثيل للجنس هو في حقيقة الأمر جندر (لأنه مبني ثقافيا) وتأكيدهما “للسلوك الطبيعي” للازدواج الجنسي الثنائي ينذر بالمقاربات التفكيكية اللاحقة. إذ تزعمان أن ثقافات أخرى تعترف بالجنس الوسيط؛ ومن ثم فإن المعتقدات الأوروبية-الأمريكية حول جنسين فقط إنما هي نتيجة “الواقع” الذي نبنيه يوميًّا، وبالتالي نخلقه كما لو كان حقيقة بيولوجية. وتؤكدان في أحد الأمثلة أننا سنعترف بالهوية الجندرية الثابتة فقط عندما يوافق الأطفال على قواعد الجندر (أن الجندر لا يتغير وأن ثَمَّ نوعين منه) التي يفهم الكبار أنها حقيقة.
وكمتابعة لعمل كيسلر وماكينا، في عام 1987م، حدد عالمي الاجتماع كانديس ويست ودون زيمرمان (Candace West and Don Zimmerman) شروط “تفعيل الجندر” كجانب من التجربة اليومية. وقدم بوب كونيل (Bob Connell) عالم الاجتماع الأسترالي تحليلات توجيهية عامة في كتابه “الجندر والسلطة (Gender and Power)” عام 1987م، الذي يدرس كيفية إنتاج الجندر من خلال ثلاث بنى اجتماعية: العمل، وتركيز الطاقة النفسية (النشاط الجنسي والعاطفة)، والسلطة السياسية. يبين كونيل كيف أن الجندر ليس بالضرورة أن يكون ثابتًا أو يمكن التنبؤ به في آثاره. أيضا في الثمانينيات، ظهر تأثير النظريات ما بعد البنيوية على الأفكار النسوية حول نشأة الجندر. حيث نشرت منظِّرة الأفلام تيريزا دو لوريتيس (Teresa de Lauretis) [كتاب] “تقنيات الجندر (Technologies of Gender)” عام 1987م؛ وفيه مقالة “تكنولوجيا الجندر” التي تعتمد على عمل الفيلسوف والمؤرخ الفرنسي ميشيل فوكو (Michel Foucault). يشجع عملُها القارئ بوضوح على التفكير في كيفية بناء الجندر من خلال التمثيلات، حتى التمثيلات النسوية. وقد حوَّل كتاب المؤرخة جوان سكوت (Joan Scott) “الجندر وسياسة التاريخ (Gender and the Politics of History)” [المنشور عام] 1988م “تاريخ النساء” إلى المجال البحثي الذي يبحث الجندر بوصفه إطارًا تنظيميًّا لبيان علاقات السلطة. وفي كتابها “الجندر: فئة مفيدة للتحيل التاريخي (Gender: A Useful Category of Historical Analysis)” (الذي نُشر بدايةً عام 1986م)، تجادل سكوت بقوة من أجل مقاربة استباقية للدراسة التاريخية، مما يعني وفقًا لها، التحرك بعيدا “النساء” باعتبارهن محورًا للبحث النسوي ونحو “الجندر” باعتباره إنتاجًا للمعاني حول كون [الشخص] امرأة أو رجلا.
مهدت كل هذه الأعمال الطريق لنشر جوديث بتلر (Judith Butler) عام 1990م [كتاب] “مشكلة الجندر: النسوية وتدمير الهوية (Gender Trouble: Feminism and the Subversion of Identity)”. لقد بلور كتاب بتلر تطورات النظرية النسوية السابقة وطوَّرها [مثل] -التساؤل الإثنوميثودولوجي[3] حول واقعية جنسين اثنين، وبيان مفهوم الجندر كسلوك يُعزَّز من خلال التكرار اليومي (“تفعيل الجندر”)، والتأكيد ما بعد البنيوي على التمثيل والخطاب كتقنيات تنتج الجندر في العالم الاجتماعي، والانتباه المستمر للجندر بوصفه بناء اجتماعيًّا متغيرًا ليس له آثار حتمية.
تبرز فكرتان، من حيث التأثير اللاحق: نظرية بتلر لما هو أدائي (performative) وتفكيكها للفكرة القائلة بأن الهوية الجندرية هي الجوهر الذي تنشأ من ورائه التعبيرات الجندرية اجتماعيًّا. فيما يتعلق بالأمر الأول، فإن مشكلة الجندر ملتبسة إلى حد ما، حيث تبدأ بتلر بمناقشة الأدائية (performativity) كمفهوم نحوي مشتق من نظرية الكلام-الفعل. وبهذا المعنى تؤدي أنواع معينة من الألفاظ اللغوية وظيفة في الواقع، كما يقول المرء (“سأفعل” في الزواج كمثال تقليدي). تقرر بتلر أن الجندر يمثل نفسه بوصفه حقيقيًّا بنفس الطريقة -التعبيرات الاجتماعية عن الجندر [مثل] (حركات الجسد، واللباس، والتوجه الجنسي العام، أي لغته) تجعل الجندر يبدو وكأنه شيء وراثي في الجسد وكأنه هوية موجودة قبل التعبير عنها، ولكن التعبيرات نفسها هي التي تخلق الجندر فعليًّا كما نعرفه. وبالتالي، لا يمكن فهم الجنس بوصفه كيانا سابقا على الجندر، أو أساسًا بيولوجيًّا يُبنى عليه الجندر اجتماعيا؛ لأن مفهوم الجندر ضروري لفهم وتفسير الجنس كأصل بيولوجي. قال توماس لاكوار (Thomas Laqueur) في كتابه: “صناعة الجنس: الجسد والجندر من الإغريق إلى فرويد (Making Sex: The Body and Gender from the Greeks to Freud)” المنشور عام 1990م، قال الشيء نفسه تقريبًا من خلال سجل تاريخي.
يبدو أن بتلر تحول إلى فهم أكثر مسرحيةً للأدائية في اتجاه إنهاء مشكلة الجندر، وهو التفسير الذي تبناه العديد من النشطاء والمنظِّرين الراديكاليين الذين قرأوا الكتاب. فهي تعبر عن نظرية للسحب كرمز للبناء المنفصل للجندر (لكونه بلا هوية). ومن المفارقات أن هذه القراءة النموذجية لمشكلة الجندر قد تكون هي العنصر الأكثر إنتاجية في النَّص، من حيث تدشينها ضربًا من النظريات “الشاذة” المحددة التي تسببت في ازدهار الثقافة الأكاديمية والشعبية في التسعينيات. ومن نظريات المثليات والمثليين إلى المجال البحثي الناشئ عن التحول الجنسي، اشتعلت فكرة الأدائية هذه واستمرت في تنشيط كل من مشاريع الجندر الناشطة والأكاديمية. وهكذا يتخلى كثير من قراء بتلر عن فهمها الفوكوي للطبيعة المقيِّدة للبُنى الاجتماعية واللغوية -فهي تعتقد أنها تسمح ببعض “التكرار التدميري” مثل المقاومات الصغيرة للأنماط المعيارية للوجود الاجتماعي. ولكنها ليست مرنة أو متنوعة على نطاق واسع- لصالح الاحتفال بإمكانيات ما بعد الحداثة المتعلقة بالتحول الشخصي.
ربما كانت أكبر مساهمة قدمتها بتلر في التنظير النسوي للجندر هي الطريقة التي عزز بها [كتاب] مشكلة الجندر وجهة النظر البنائية [المتمثلة في] -أننا نصنع الجندر، وفي هذه الصناعة، يصنعنا هو أيضا؛ وقد ساهم باحثون آخرون في هذه المناقشة كذلك. وواصل الباحثون النسويون في الدراسات العلمية الاهتمام بالبناء الاجتماعي للجنس بوصفه فئة بيولوجية. وأظهرت الأبحاث الثقافية والتاريخية للمعالجة الطبية لثنائية الجنس والتحول الجنسي كيف أن المفاهيم السائدة عن الجندر قادت الممارسة الطبية ونظريات الجندر التي منحها الطب البيولوجي سُلطة. في عام 1998م، نشرت سوزان كيسلر دراسة بارزة أخرى في نظرية الجندر، [وهي] “دروس من ثنائيي الجنس (Lessons from the Intersexed)”، رغم أن هذا النص يمثل دراسة لظاهرة اجتماعية ثقافية أكثر من كونه عملا نظريا. توضح كيسلر هنا كيف أن الأفكار الجامدة حول كون [المرء منتميًا إلى] جنس [ما] تقيد خيارات الحياة، والهويات الاجتماعية، والتجارب المجسدة للأشخاص الذين يولدون بحالات جنس ثنائي. كما يوضح لنا [كتاب] الدروس كيف أن مفهوم الجندر يسلِّط الممارسات الطبية على بعض الأجساد الشاذة عن القاعدة والتي لا تدمر أجسادهم فحسب من أجل تصنيفها وفقا لمعايير اعتباطية أخرى للازدواج الجنسي، ولكنها أيضا تلقي بهؤلاء الأشخاص في غيابات الصمت، والمعاناة، والتهميش.
خلال الثمانينيات والتسعينيات، عملت مجموعة أخرى من التأثيرات على تغيير مفهوم الجندر. وقد كُتِبت معظم النصوص الأساسية لنظرية الجندر من قِبَل النسويات البِيض. كما تقول دونا هاراواي (Donna Haraway) في مراجعتها: “‘الجندر‘ بالاصطلاح الماركسي: السياسة الجنسية لكلمة (‘Gender’ for a Marxist Dictionary: The Sexual Politics of a Word)”، أن النسويات الملونات احتججن طويلا بأن “فئة الجندر حجبت أو أخضعت ‘الآخرين‘ الآخرين[4]” (p. 144). ولأن نظرية العرق النقدية تطورت في الدراسات القانونية ثم انتقلت إلى ساحات أخرى؛ فقد ارتبطت بالنظريات النسوية لتنتج “نسوية عرقية نقدية” هجينة، يُحاكَم فيها العرق والجندر كموجهَين مرتبطين بالتجربة. كثرت المقاربات متعددة الثقافات ومتداخلة التخصصات؛ لأن الباحثات النسويات حاولن تفسير الفروق داخل الفئة الشاملة “النساء”. فبالنسبة لمعظم المنظرين النسويين اليوم، يُستخدم الجندر كفئة بجانب العرق، والطبقة، والتوجه الجنسي؛ لتوضيح مدى تعقيد تجربة أي امرأة بداخل الاضطهادات المتقاطعة. لكن “نظرية الجندر” كمجال ما زالت تهيمن عليها النسويات البيض، كما لو كان الجندر يمكن أن يوضع في البؤرة كفئة منفصلة للتحليل من أجل النساء والرجال الذين يمنحهم عرقهم امتيازا بنسيان أن لهم عرقًا فحسب. في الواقع، تقرر أويرونوكي أويومي (Oyèrónké Oyewùmí) في [كتاب] “اختراع النساء: صناعة الشعور الإفريقي بالخطابات الجنسانية الغربية (The Invention of Women: Making African Sense of Western Gender Discourses (1997))”، أن هناك شيئا يخص الشأن الأوروبي تحديدًا في خلق الجندر كمفهوم له تلك الأهمية المتميزة عن غيره من العلاقات الاجتماعية. إن تحليل أويومي للأنظمة الاجتماعية لليوريوبا[5] (Yoruba) قبل الاستعمار الأوروبي وبعده يقدم دليلا عابرا للثقافة على مدى كون مفهوم الجندر يعمم الخبرات، والممارسات الاجتماعية، والهويات بصورة مزيفة، وهي فكرة طُوِّرت في النظرية النسوية منذ منتصف الثمانينيات على أقل تقدير.
في بداية القرن الواحد والعشرين، أصبحت نظرية الجندر في مكانة مزدوجة، حيث كان تركيزها منذ التسعينيات على الأقل يستهدف ثنائية الجنس، والتحول الجنسي، والتحول الجندري، وتجارب المثليات والمثليين. أي أن التجارب التي يُضرَب بها المثل (نظريًّا) على الجندر قد انتقلت من النساء إلى الذوات التي يُعتقد أنها مهمشة بالنسبة لقضايا النساء. وخلال هذا الانتقال، أُثرِيَ الجندر كمفهوم تحليلي من خلال التعبيرات الدقيقة عن علاقته بالأنماط الأخرى المتعلقة بالوجود والتجربة، مثل التوجه الجنسي والعرق، ولكن الارتباط السابق بين التحليل الجندري واستكشاف تبعية النساء قد اختفى مِرارًا. في الواقع، أصبحت المقاربات الرائدة للمؤرخة جوان سكوت (Joan Scott) والفيسلوفة جوديث بتلر (ضمن آخرين) -والتي تفضِّل الجندر على المرأة- راسخةً لدرجة أنه يصعب أحيانا الحديث عن النساء بإطلاق. (بالطبع، الحديث عن النساء غالبا ما يؤدي إلى مشكلات تتعلق بالنساء، أي مشكلات الإقصاء أو التمييز التي لا يُعترف بها؛ لننظر إلى سبيلمان (Spelman) وكذلك بتلر). هناك أيضا مجال ناشئ لـ “دراسات الذكورة” أو “دراسات الرجال” (see Kimmel). قليل من النسويات يأسفن على المجال البحثي الثري والمتطور بصورة لا تصدَّق الذي نشأ بسبب ظهور المقاربات “الشاذة” ونظرية العرق النقدية في الثمانينيات والتسعينيات، غير أنه كان هناك تراجع مذهل، فيما يتعلق بتطوير نظرية الجندر، وتطور المراكز التقليدية للبحث النسوي: الحياة المنزلية، والقرابة، والمساواة، وتقسيم العمل على أساس الجنس.
حاولت جوان ويليامز Joan Williams المنظِّرة القانونية النسوية إعادة نظرية الجندر إلى الاهتمام بتجارب النساء وتبعيتهن. في [كتابها] “تقويض الجندر (Unbending Gender)”، تعتبر مقاربة ويليامز في التنظير للجندر براغماتية ونظرية على السواء، وتحضر فيها المواقف الملموسة في الحياة المنزلية التي كانت تحدد الجندر في أواخر القرن العشرين في الولايات المتحدة. وفي [إطار] البحث عن السبب في أن الكثير من النساء العاملات “يخترن” البقاء في المنزل بعد إنجاب الأطفال، تجادل ويليامز بأن العمل المنزلي يُدار بوصفه “حقل قوة”؛ لإعادة النساء إلى المعايير الجندرية التقليدية، وهي المعايير التي تؤذي النساء في نهاية المطاف؛ لأن المعدل المرتفع للطلاق يؤدي إلى إفقارهن نسبيًّا. يتضمن تحليلها متعدد الأوجه مناقشة لمدى تعبير المعايير الجندرية عن لغة التمييز الطبقي والعرقي، وتوضيحًا للطرق التي يتجاهل بها الطلاق واتفاقيات الحضانة عن عمد العملَ الأسري الذي تقوم به النساء أثناء الزواج وبعده على السواء من أجل تسهيل المكانة المثالية للرجل العامل. لا تُتقاسَم الأجور المرتفعة “للعاملين المثاليين” من الرجال دوريًّا مع الزوجات والأطفال، رغم أن تدفق العمل الأسري هو ما يجعل [هذه] المكانة ممكنة. وكذلك تجادل ويليامز بأنه ينبغي على النسويات إعادة النظر في الحياة المنزلية بوصفها “سحبًا”، بالمعنى الذي [تستخدمه] بتلر للأدائية والذي لا يفوِّض أي هوية محددة كأصل له. أهمية هذه الاستراتيجية هي الإقرار، على الأقل في الولايات المتحدة، بأن نموذج التسليع الكامل للنسوية (الاستعانة بمصادر خارجية في [القيام] بالواجبات المنزلية، بما في ذلك رعاية الأطفال) لم يعمل كاستراتيجية سياسية لمنح المرأة المساواة في أماكن العمل، وقد أدى إلى علاقات عدائية لا طائل من ورائها بين أولئك الذين يتناغمون مع الحياة المنزلية وأولئك الذين يتنكرون لها. إن وصف الحياة المنزلية بأنها “سحب” هو أحد الطرق لـ “تقويض الجندر” بقطع الروابط بين العمل المنزلي وبين الطبيعة المفترضة للمرأة.
وبالتالي فإن ما تقدمه ويليامز هو إخراج للجندر من التجريدات البعيدة التي يُعبَّر عنها مؤخرا، وتركيز على المواقف الملموسة التي يجد فيها الرجال والنساء أنفسهم. إن استنتاجاتها حول الجندر ملموسة ومشجعة على السواء، وهي تعمل صراحة ضد فكرة أن جميع النساء يلتحمن حول هوية جندرية محددة. وبدلا من ذلك، فإن نظريتها تقرر أن النساء يمكن أن تجمعهن الاختلافات إذا ما أدركن كيف أن البُنى الاجتماعية الخاصة (مثل ندرة وجود عمل بدوام جزئي وأجر جيد) تخلق ظروفًا سلبية لجميع النساء، بغضِّ النظر عن الخيارات الفردية التي تتخذها النساء. إنها تعبر عن نظرية للجندر تتعلق ببنية الحياة المنزلية في المجتمع الأمريكي، وتجادل بأنه يجب تفسير خيارات المرأة المتعلقة بالعمل والتي تبدو حرة في إطار القيود التي تفرضها الحياة المنزلية. ومن ثم فإن الجندر بالنسبة إلى ويليامز يعمل كسلطة للحياة المنزلية؛ كما أنه يقدم من خلال النسوية طريقة لتحليل خيارات المرأة وتغييرها عن طريق تغيير علاقة المرأة بالحياة المنزلية وأصولها المضمنة في هوية الأنثى.
الجندر في التاريخ الأمريكي
يتعلق تاريخ الجندر في أمريكا بنظام اجتماعي يقيد الأنوثة والرجولة، وينتجهما في الوقت نفسه على مدار قرون من الزمان. ولا تتأثر النساء بمعايير الجندر فحسب، بل إنهن يبتكرنها، ويتفاوضن معها، ويغيِّرنها أيضا. إن المعايير عنصرية ومرتبطة بالوضع الطبقي، والنساء لا يتحكمن في الهياكل الاقتصادية أو أدوات صناعة المعنى التي تعبِّر عن قوتهن رغم مشاركتهن في إنتاجها. وهكذا فرغم اشتراكهن في صناعة الجندر، إلا أن تنفيذه ينتقص من قدرهن. إن تحديد هذا الانتقاص ليس مستقرًّا، ولكن آثاره مستمرة.
تَدرس معظم مقاربات الجندر في التاريخ الأمريكي الطبيعةَ المتغيرة لأدوار الرجال والنساء وعلاقاتهم على مدار أكثر من أربعة قرون من الهيمنة الأوروبية على أمريكا الشمالية. وفي حين أنه قد تكون هناك قصة عامة تروي الاختلافات بين المعتقدات الصارمة في التسلسل الهرمي داخل المجتمع وما يلي ذلك من ضغوط التنوير على الفردية المستقلة، فقد تكون هناك عشرات الآلاف من القصص الأخرى حول كيفية تأثير البلد، والعرق، والدين على كيفية عمل الجندر في أي فترة تاريخية معينة وأي موقع جغرافي. يدل الاهتمام الدقيق بالجندر في التاريخ الأمريكي على أنه يُنتَج عن طريق تغيير تكوينات العمل، والقرابة، والعنصرية، والتمييز الطبقي. وتعبر الأدوار الجندرية عن التوقعات الاجتماعية للواجبات والممارسات الثقافية المناسبة لكل من الرجال والنساء، خصوصًا ما يتعلق بالإنجاب والنشاط الاقتصادي والجنسي.
كان الرجال مسؤولين عن الأسر الاستعمارية في أمريكا، وكانت هذه الأسر تتكون من أفراد الأسرة بالإضافة إلى الخدم أو العبيد المستأجرين والحرفيين. وقد تمتعت النساء البروتستانت بالمساواة مع الرجال، لكن الزوجات كُنَّ يخضعن لحكم أزواجهم. وكانت النساء يعانين من “الموت القانوني” عندما يتزوجن، بموجب مبدأ الحجب الذي ينص على أن المرأة ليس من حقها امتلاك ممتلكات خاصة بها أو ممارسة الأعمال التجارية باسمها الخاص. في الجنوب، كانت الأسَر الاستعمارية بعيدة عموما، وبعيدة عن الكنائس إلى حد كبير. ولعل النساء قد حصلن على قدر أكبر من الاستقلالية في السياقات التي لم يجربن فيها الإشراف المباشر من المجتمع الديني الذي كان شائعا في الشمال. كان لنساء الكويكرز[6] أدوارا أكثر نشاطا في كنائسهن من النساء في الطوائف البروتستانتية الأخرى.
لم تجرب النساء البيضاوات الاستعماريات فصلَ الأمومة عن النشاط الاقتصادي الذي أصبح شائعا في الحياة المنزلية المثالية في القرن التاسع عشر؛ لأن المنزل في الفترة السابقة كان مركزًا للحياة الاقتصادية. وبالمثل، لم يكن الآباء منفصلين عن العمل اليومي في الحياة المنزلية، وكانوا غالبا مسؤولين عن تعليم الأطفال، خاصة الأولاد. تجادل ليندا ستون ونانسي ماكي (Linda Stone and Nancy McKee) في [كتابهما] “الجندر والثقافة في أمريكا (Gender and Culture in America)”، بأن النساء البيضاوات الاستعماريات كن قادرات على دمج ثلاثة أدوار من الأنوثة الناضجة -النشاط الاقتصادي، والأمومة، والنشاط الجنسي- بطرق تصعب على المرأة المعاصرة. ويرجع ذلك جزئيا إلى أن القرن التاسع عشر أعلن مجموعة من المثل الاجتماعية التي حددت النساء البيضاوات بالتضحية بالنفس، والتربية، والمنزل، كما [حددت] الرجال البيض بالفردانية المستقلة وعالم التجارة الرأسمالية.
تغيرت الذكورة أيضا خلال القرن التاسع عشر، من مثالية الرجولة التي تشير إلى الشخصية النبيلة إلى ذكورة تُحدَّد بالفحولة الجسدية المرتبطة بالقوة العضلية عند الطبقة العاملة. عُرِّفت الأنوثة من خلال “عبادة الأنوثة الحقيقية (cult of true womanhood)”، حيث حددت المؤرخة باربرا ويلتر (Barbara Welter) المثُل المترابطة [المتمثلة في] الحياة الأسرية، والتقوى، والإذعان، والنقاء والتي سيطرت على الخطابات العامة حول الأنوثة في تلك الفترة. كانت عبادة الأنوثة الحقيقية إلى حد كبير نموذجًا شماليًا، من الطبقة الوسطى، وأبيضًا؛ لأن النساء البيضاوات الجنوبيات كُنَّ أقل عرضة للتقييد بالمفاهيم الشمالية للعمل المنزلي الأنثوي؛ وبالطبع، لم يكن العبيد قادرين على التحكم في معاناتهم حتى يعيشوا خارج [حدود] التعاليم، كما توضح هارييت جاكوبس (Harriet Jacobs) في [كتابها] “حوادث في حياة أمَة (Incidents in the Life of a Slave Girl)”.
توضح جاكوبس أن الإماء المتعلمات، اللاتي تعرضن للمثُل الأوروبية الأمريكية المتعلقة بالسلوك الأنثوي، حاولن استخدام عبادة الأنوثة الحقيقية للدفاع عن أنفسهن ضد الاعتداء الجنسي وتحديد حياتهن من ناحية الفضيلة والتقوى، ولكنها توضح أيضًا كم كان صعبًا على الإماء السود أن يجادلن عن أنفسهن مع [وجود] المثُل العنصرية للأنوثة الحقيقية. كان الضعف الأنثوي المفترَض للنساء البيضاوات جزءًا من الصعوبة هنا، وهي سمة جسدية محسوسة سوغت حبسهن في المجال المنزلي، في حين أن الإماء السود والنساء العاملات الأخريات ([اللاتي] لا تعتبرهن الطبقات المتوسطة والعليا بيضاوات بالكامل في كثير من الأحيان) لم يستطعن التأكيد على هذه العلامة المميزة للأنوثة، بسبب التوقعات اليومية للعمل البدني.
بيد أن القرن التاسع عشر لم يكن مقتصرا على حبس النساء البيضاوات في المنزل وخضوعهن لسلطة الذكور. فقد سُنَّت قوانين ملكية المرأة المتزوجة في منتصف القرن التاسع عشر. سُنَّ قانونان في ولاية نيويورك في عامي 1848م و 1860م، جعلا من القانوني بالنسبة للنساء أن يكون لهن ملكية خاصة، رغم أنهن لم يمتلكن الحق في مكاسبهن الخاصة أو حق الوصاية المشتركة على أطفالهن إلا بعد القانون الثاني. وقد دفعت السلطة الأخلاقية المتزايدة للمرأة البيضاء في المنزل والمصاحبة لإيداعها في المنزل العديدَ من الإصلاحيين إلى الجدل حول ضرورة مشاركتهن في الشؤون العامة. كان المنطق هو أنه إذا كانت أفراد النساء البيضاوات من شأنهن أن يقدمن قوة حضارية ناعمة ضد العدوانية التنافسية لتأثير الرأسمالية على رجال مجتمعهن، إذَن فيجب على النساء البيضاوات كمجموعة أن يقدمن تأثيرهن الحضاري للمجتمع كله. كان هذا أحد الأسباب المنطقية للاقتراع؛ وكان السبب المنطقي الأكثر راديكالية هو أن النساء البيضاوات مواطنات ويحق لهن التصويت مثل الرجال. اصطفَّت حجة الاختلاف -أن المرأة شكلت صوتا أخلاقيا خاصا ضروريا للمجتمع المدني السليم- جنبًا إلى جنب مع حجة المساواة -أن الرجال والنساء [يمثلون] الشيء نفسه من الناحية السياسية وبالتالي يتطلبون حقوقًا متساوية. وإذا كانت حجة الاختلاف في القرن التاسع عشر قد عززتها عبادة الأنوثة الحقيقة وقوة الضغط الأخلاقي للأنوثة المنزلية، فقد سيطرت حجة المساواة على معظم [الاتجاهات] النسوية في القرن العشرين، حتى العقود الأخيرة من القرن على أقل تقدير، ويرجع ذلك بدرجة كبيرة إلى تغير القوى العاملة الرأسمالية والحاجة إلى دخلَين للحفاظ على وضع الطبقة المتوسطة لأفراد العائلات.
شهد القرن العشرون توسعًا في حقوق النساء وفرصهن (والذي يرمز له بالحصول على حق المرأة في الاقتراع عام 1920م)، وبالتالي اتسعت أدوارهن الاجتماعية كنساء، ولكن بقيَت تنبؤات كثيرة بشأن الجندر. على سبيل المثال، مع دخول المزيد والمزيد من النساء في القوى العاملة، ضعفت علاقة المرأة بالمنزل ولكنها لم تنقطع بالكامل. فما زالت المرأة مسؤولة إلى حد كبير عن العمل المنزلي، حتى عندما تعمل خارج المنزل، وهذا يقود إلى ظاهرة عالمة الاجتماع آرلي هوتشيلد (Arlie Hochschild) والتي يُطلق عليها “التحول الثاني (the second shift)” (في كتاب بنفس الاسم). يبدو أن ارتفاع نسبة الزواج المصاحِب[7] (companionate marriage) وسيطرة نساء الطبقة المتوسطة على خصوبتهن في أواخر القرن التاسع عشر كان يشير إلى تقدم مهم بالنسبة للنساء. من المؤكد أن القبول التدريجي لتنظيم الأسرة والتحكم في النسل على مدار القرن العشرين كان متكاملًا مع الحريات المتزايدة التي تمتعت بها العديد من النساء الأمريكيات فيما يتعلق بحياتهن الإنجابية (على اختلافها) وبالتالي بحياتهن عمومًا. لكن الزواج المصاحب والتحكم الفردي في الإنجاب قد أثَّر أيضا على تطوير توقعات جندرية جديدة حول الحياة الجنسية الزوجية للنساء وعلاقتهن (الصارمة) بالأزواج، وعلاقتهن (الأقل صرامة، بسبب معايير الطبقة المتوسطة في القرن التاسع عشر) بالأطفال. برزت الموجة الثانية من الحركة النسوية في شغَب الستينيات كردة فعل -جزئيًّا- للمعاملة النمطية للمرأة في الحركات الطلابية وحركات الحقوق المدنية. كان تحقيق الحرية الجنسية لجميع النساء في طليعة الأهداف النسوية الراديكالية المبكرة. وتقرر بعض النسويات أن الرجال الذين عبَّروا بلغة منمقة عن الحرية قد استغلوا رغبة النساء في الحرية الجنسية لخدمة زيادة الوصول الجنسي إليهن.
حتى فترة ما قبل الحرب، كانت الأدوار الجنسية للمرأة تُفهم ثقافيا على أنها تتعلق بفئات العرق والطبقة، وأنها ترتبط بالأدوار الاجتماعية الأساسية الأخرى للنساء: الأمهات والعاملات. تجادل ستون وماكي بأن النساء السوداوات كُنَّ يجمعن دوما بين العمل والأمومة، لذا فإن الرغبات الحماسية للنسويات البيضاوات في الوصول للمناصب مدفوعة الأجر لم تحدد دائما أهداف النسويات السوداوات. وبعد التحرر مباشرة، ناضلت النساء السوداوات من أجل ممارسة الأمومة وأن يمكثن في المنزل كوسيلة لمقاومة القمع الأبيض والمطالَبة البيضاء بأن تقدم السوداوات خدماتهن كخادمات في المنازل بأجور زهيدة[8]. ولكن أدى التمييز ضد الرجال السود إلى جعل الأهداف المنزلية للأمهات السوداوات مستحيلة بالنسبة للجميع باستثناء الأكثر تميزًا من بينهن، لأن الأسر السوداء كانت في حاجة ماسة إلى أجور النساء السوداوات لكي يمكن أن تسير مركب الحياة الأسرية اقتصاديًّا. يستمر هذا النمط في الوقت الحاضر. ولكن لأن النموذج الأمريكي المهيمن هو الأم ربة المنزل، عانت المرأة السوداء اجتماعيًّا؛ لأن البنية الاقتصادية التي تحافظ على مصالح البيض، تواصل تكليفها بتغييبها عن المنزل. كما عوملت النساء السوداوات كأمهات بطريقة مختلفة عن البيضاوات من قِبَل سلطات الرفاهية ووسائل الإعلام العامة؛ وهذه المعاملة التفاضلية تنتج وتؤثر في وجهات النظر السلبية عن النساء السوداوات كأمهات، والتصور واسع الانتشار عن المرأة السوداء بأنها [ذات ميول] جنسية مفرطة (see Solinger and Roberts).
تأثرت الأدوار الجندرية للأمريكيين الأصليين أيضا بتوقعات البيض بشأن عملهم. ففي الغزو الأوروبي، لم تكن النساء الهنود الأصليات يعتمدن اقتصاديا على الرجال. وقد أدت التفاعلات القبَلية مع الأوروبيين إلى تأسيس أفكار حول اعتماد النساء الضروري والطبيعي على الرجال. على سبيل المثال، غالبا ما تُعطِّل الاتفاقيات بين البيض وزعماء القبائل حصولَ النساء على الأراضي، مما يفرض عليهن الاعتماد على الرجال في قبائلهن. كما تأثرت مجالات الرجال أيضا؛ إذ كتبت ستون وماكي أن الضغط الأوروبي على الزراعة بوصفها مهنة “حضارية” غالبا ما كان يدَع الرجال الأصليين الذين قُيِّدَت أدوارهم الجندرية في الصيد والحرب بلا أدوار متميزة في مجتمعاتهم المتغيرة (pp. 78–80).
[أما] الآسيويون الأمريكيون واللاتينيون أو الأمريكيون من أصول أسبانية، فلديهم تاريخ مختلف فيما يتعلق بالجندر. تبحث ستون وماكي ما تسميانه بـ “اللُّب الأبوي (patriarchal core)” للثقافة اللاتينية [والمتمثل في]: هيمنة الرجال، والفخر الذكوري، والمسؤولية الفردية للمرأة في العمل المنزلي (حتى حينما تعمل خارج المنزل). تكتب النسوية المثلية التشيكانا[9] شيري موراغا (Cherrie Moraga) عن تشابك العرق والجنسية والنشاط الجنسي في مقالها الكلاسيكي “مسار ممتد من مشاعر الإنجاز (A Long Line of Vendidas)” الذي تقول في إحدى أفكاره “كان جنس أخي أبيضًا، بينما كان [جنسي] بُنيًّا”، ربما يكون الأمريكيون الآسيويون هم المجموعة الأكثر تنوعًا التي اجتمعت تحت مسمى أقلية واحدة. قيَّدت قوانين الهجرة في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين الهجرة الآسيوية، وخصوصا هجرة النساء الصينيات. وأثَّر اعتقال الأمريكيين اليابانيين والمواطنين اليابانيين المهاجرين أثناء الحرب العالمية الثانية على الرجال والنساء بشكل ملحوظ. لقد قلل تغيير الأوضاع من سلطة الرجال داخل الأسرة، بينما كان يميل إلى تخفيف الأدوار الجندرية وتقديم الراحة من الأعباء المنزلية للنساء (Stone and McKee, p. 119). يتصارع الأمريكيون الآسيويون -الذين يطلق عليهم “الأقلية النموذجية”- مع مجموعة متنوعة من القوالب النمطية التي تؤثر عليها التوقعات الأوروبية الأمريكية للجندر؛ والتي تشمل في المجال الجنسي المرأة الآسيوية المذعنة والغريبة والرجل الآسيوي الضعيف.
غالبا ما تقول النساء الملونات أن الحركة النسائية السائدة تتجه نحو تجارب المرأة البيضاء، وتصوراتها واحتياجاتها، لا يوضح هذا القول الطريقة التي هيمنت بها النساء البيضاوات على الخطابات التي تحدد النسوية فحسب بل والطريقة التي تطبَّق بها المفاهيم السائدة حول الجندر على تطلعات المرأة البيضاء من الطبقة المتوسطة ومكانتها. تحدى المثليون والمثليات أيضا التمييز الضمني للنساء المائلات إلى الجنس الآخر، بحجة أن المعايير والتوقعات الجندرية والممارسات الاجتماعية لا تبقي على التمييز الجنسي فحسب، وإنما تعمل أيضا على إخضاع المثليين. لقد استهدفت الناشطات النسويات الراديكاليات بادئ ذي بدء تقييدَ الأدوار الجندرية بوصفها سببا أو استمرارا للقمع؛ لكن بعض النشاط الراديكالي حاليا يرحب بالقيام بالأدوار ما دام ذلك يتم طواعية وبمنأى عن الهوية أو الجوهر. يواصل الباحثون من المثليات والمثليين والنسويات مناقشة أهمية الأدوار الجندرية في تاريخ السحاق، الذي تألَّف في الخمسينيات والستينيات -على أقل تقدير- من ثقافة الحانات التي نشطت في الطبقة العاملة والتي طورت وشرَّعت أدوار السحاقيات. رفضت النسويات السحاقيات في السبعينيات الأدوار السحاقية لصالح سياسة معبرة عن الأندروجينية[10]، رغم أن “النقاشات الجنسية” داخل النسوية انتقدت النسوية السحاقية في أوائل الثمانينيات؛ لتشويه الإمكانيات الإغرائية للثقافات السحاقية السابقة. تشهد المسيرات السنوية للمثليين التي تخرج في جميع أنحاء الولايات المتحدة في شهر يونيو من كل عام لإحياء ذكرى أعمال الشغب عام 1969م في نيويورك في [بار] ستونوول إن[11] (Stonewall Inn) -حيث اعترض رعاة المثليات والمثليين والمتحولين جنسيا على تفتيش روتيني قامت به الشرطة- على توسيع السياسات الأدائية للاضطراب في الجندر. يتباهى المشاركون في الموكب باتفاقيات الجندر وكذلك بمعايير التوجه الجنسي؛ للدلالة على الصلة الوثيقة بين الجندر والحياة الجنسية في بناء الشخصية في أمريكا.
منذ منتصف السبعينيات، ومع انتشار الأفكار حول الجندر، شهدت النساء الأمريكيات زيادة في التحرر من التمييز والإقصاء العلنيين. لعل هذا هو السبب في أن مفهوم الجندر قد أصبح أكثر مرادَفة للجنس، مما يشير إلى الرغبة القومية المعتدلة في رؤية الطبيعة والثقافة على وفاق بصدد الاختلافات الأساسية بين الرجال والنساء، والتي تفسر التبعية الاجتماعية للإناث من البشر. قد تشير التأكيدات الراديكالية لأنواع بديلة للجندر، بدمج الجنسين أو تجاوزهما، إلى زيادة التحرر من الثنائيات المقيدة للتكوينات التاريخية[12]، أو قد تمثل فقط رغبات طوباوية لتجاوز الصعوبات في إنتاج حلول سياسية متساوية حقا [لمشكلة] عدم المساواة حاليًا فيما يتعلق بالسلطة والتمييز القائمين على أساس الجندر.
المراجع
.Bornstein, Kate. Gender Outlaw: On Men, Women, and the Rest of Us. New York: Routledge, 1994
.Butler, Judith. Gender Trouble: Feminism and the Subversion of Identity. New York: Routledge, 1990
.Connell, R. W. Gender and Power. Stanford, Calif. : Stanford University Press, 1987
.Cott, Nancy F. The Bonds of Womanhood: “Woman’s Sphere” in New England, 1780–1835.New Haven, Conn. : Yale University Press, 1977.
.De Lauretis, Teresa. Technologies of Gender: Essays on Theory, Film, and Fiction.Bloomington: Indiana University Press, 1987
.Delgado, Richard, and Jean Stefancic, eds. Critical Race Theory: The Cutting Edge. 2d ed. Philadelphia: Temple University Press, 1999
.D’Emilio, John, and Estelle B. Freedman. Intimate Matters: A History of Sexuality in America. New York: Harper & Row, 1988
.Echols, Alice. Daring to Be Bad: Radical Feminism in America, 1967–1975. Minneapolis: University of Minnesota Press, 1989.
.Evans, Sara M. Born for Liberty: A History of Women in America. New York: Free Press, 1989
.Fausto-Sterling, Anne. Myths of Gender: Biological Theories About Women and Men. New York: Basic Books, 1985
Haraway, Donna J. “‘Gender’ for a Marxist Dictionary: The Sexual Politics of a Word.” In her Simians, Cyborgs, and Women: The Reinvention of Nature. New York: Routledge, 1991.
.Hausman, Bernice L. Changing Sex: Transsexualism, Technology, and the Idea of Gender.Durham, N. C. : Duke University Pres, 1995
.Hochschild, Arlie. The Second Shift. New York: Viking, 1989
Jacobs, Harriet. Incidents in the Life of a Slave Girl, Written by Herself. Edited by L. Maria Child and Jean Fagan Yellin. Cambridge, Mass: Harvard University Press, 1987
.Kessler, Suzanne J. Lessons from the Intersexed. New Brunswick, N. J. : Rutgers University Press, 1998
Kessler, Suzanne J. and Wendy McKenna. Gender: An Ethnomethodological Approach. New York: John Wiley, 1978. Repr. Chicago: University of Chicago Press, 1985.
Kimmel, Michael S. Manhood in America: A Cultural History. New York: Free Press, 1996
Laqueur, Thomas. Making Sex: The Body and Gender from the Greeks to Freud. Cambridge, Mass: Harvard University Press, 1990
Money, John, John Hampson, and Joan Hampson. “An Examination of Some Basic Sexual Concepts: The Evidence of Human Hermaphroditism.” Bulletin of the Johns HopkinsHospital 97, no. 4 (1955): 301–319.
. “Hermaphroditism: Recommendations Concerning Assignment of Sex, Change of Sex, and Psychologic Management.” Bulletin of the Johns Hopkins Hospital 97, no. 4 (1955): 284–300.
. “Sexual Incongruity and Psychopathology: The Evidence of Human Hermaphroditism.” Bulletin of the Johns Hopkins Hospital 91, no. 1 (1956): 43–57.
. “Imprinting and the Establishment of Gender Role.” Archives of Neurology and Psychiatry 77 (1957): 333–336
Moraga, Cherrie. “A Long Line of Vendidas.” In her Loving in the War Years. Boston: South End Press, 1983
Oakley, Ann. Sex, Gender, and Society. New York: Harper & Row/Harper Colophon Books, 1972
Oyewùmí, Oyèrónké. The Invention of Women: Making an African Sense of Western Gender Discourses. Minneapolis: University of Minnesota Press, 1997.
Parsons, Talcott. “Sex Roles in the American Kinship System.” In The Kinship System of the Contemporary United States: Essays in Sociological Theory. New York: Free Press, 1954.
Roberts, Dorothy. Killing the Black Body: Race, Reproduction, and the Meaning of Liberty.New York: Pantheon, 1997.
Rubin, Gayle. “The Traffic in Women: Notes on the ‘Political Economy’ of Sex.” In Toward an Anthropology of Women. Edited by Rayna R. Reiter. New York: Monthly Review Press, 1975.
Scott, Joan Wallach. “Gender: A Useful Category of Historical Analysis.” American Historical Review 91, no. 5 (December 1986): 1053–1075
———. Gender and the Politics of History. New York: Columbia University Press, 1988
Solinger, Rickie. Wake Up Little Susie: Single Pregnancy and Race Before Roe v. Wade. 2d ed. New York: Routledge, 2000
.Spelman, Elizabeth V. Inessential Woman: Problems of Exclusion in Feminist Thought.Boston: Beacon, 1988
.Stein, Kathleen. “Interview: John Money.” Omni 8, no. 7 (April 1986): 79–80, 82, 84, 86, 126, 128, 130, 131
Stoller, Robert J. “A Contribution to the Study of Gender Identity.” Journal of the American Medical Association 45 (1964): 220–226.
. Sex and Gender: On the Development of Masculinity and Femininity. New York: Science House, 1968
.Stone, Linda and Nancy P. McKee. Gender and Culture in America. Upper Saddle River, N. J. : Prentice-Hall, 1999
.Welter, Barbara. “The Cult of True Womanhood.” American Quarterly 18 (1966): 151–174
.West, Candace, and Don Zimmerman. “Doing Gender.” Gender and Society 1, no. 2 (June 1987): 125–151
.Williams, Joan. Unbending Gender: Why Family and Work Conflict and What to Do About It. New York: Oxford University Press, 2000
.Wing, Adrien Katherine, ed. Critical Race Feminism: A Reader. New York: New York University Press, 1997
*عن الكاتبة: رئيسة قسم العلوم الإنسانية في كلية الطب بولاية بنسلفانيا، ولها عدة مؤلفات فيما يخص شؤون المرأة.
[1] يشير مصطلح الجندر (gender) أساسًا إلى جنس الفرد أو نوعه (كونه ذكَرًا أو أنثى)، ولكن لهذا المصطلح تطور في الاستعمال يدرسه هذا المقال. ونظرًا للحمولة الكبيرة لهذا المصطلح واستخدامه في حقل دراسات المرأة كما هو؛ لم يُترجم إلى النوع بسبب ما بينه وبين هذه المفردة من عموم وخصوص، ولا إلى “الجنس” لما بينه وبين المصطلح “sex” من تداخل؛ ومن ثم جرى استعماله كما هو، لذا يُرجى من القارئ الكريم استحضار هذا أثناء القراءة. (المترجمة).
[2] فرع من فروع الفلسفة يدرس اللغة في مصادرها التاريخية الشفهية والمكتوبة، ويتقاطع مع النقد الأدبي والتاريخ واللسانيات. (المترجمة)
[3] منهجية تهتم بالتحليل الاجتماعي لكيفية بناء مشتركات لدى أفراد المجتمع. (المترجمة).
[4] ترى النسويات البيضاوات أنهن “آخرَ” مضطهَد مقارنة بالرجال، بينما لم يكن هناك اعتبار للسوداوات والملونات اللاتي يعتبرن “آخَرًا” آخَر.
[5] مجموعة عرقية إفريقية تعيش في غرب إفريقيا، لا سيما في نيجيريا. (المترجمة).
[6] هذا هو الاسم الشائع لجمعية الأصدقاء الدينية أو الصاحبيون، وهي مجموعة من المسيحيين البروتستانت نشأت في إنجلترا في القرن السابع عشر على يد جورج فوكس. (المترجمة).
[7] يقصد به الزواج الذي يقرر فيه الشريكان عدم الإنجاب، ويحتفظان بالحق بإنفاذ الطلاق بالتراضي فيما بينهما. (المترجمة).
[8] لكي تتحرر المرأة البيضاء من أعباء المنزل وتخرج للعمل، كانت تستأجر المرأة السوداء بأجر زهيد لتقوم بدلا منها بواجباتها المنزلية، فاعترضت السوداء على كون البيضاء تستغلها بهذه الطريقة، فطالبَت -ويا للمفارقة- أن تمكث في البيت وتتفرغ لأبنائها ولا تعمل عند البيضاء التي تستغلها بأجر زهيد، وفي هذا نشاهد تقابُل المطالب النسوية، فهذه تناضل لتخرج من البيت، وتلك تناضل لتمكث في البيت! (المترجمة).
[9] يطلق ذلك على نساء من ذوات الأصل المكسيكي واللاتي يقطنَّ أمريكا الجنوبية.
[10] خليط من الخصائص الذكورية والأنثوية التي تجتمع في صورة غامضة. (المترجمة).
[11] حانة ترفيهية للمثليين في مدينة نيويورك شهدت أحداث الشغب المذكورة عام 1969م، وتعتبر هذه الحادثة هي الأكثر أهمية فيما يتعلق بحركة تحرير المثليين، والتي تلاها صراع المثليين للحصول على حقوق في الولايات المتحدة. (المترجمة).
[12] ليس ذلك انعتاقا من القيود التاريخية وإنما تقيُّدا بأغلال عبودية الذات، وارتماء في أحضان اللا معنى وسقوطا في غيابات الفوضى، وقبل كل شيء.. هو محاربة لسنن الخالق في الكون، والتي لن تكون عاقبتها -إن لم يسع أهل الحق في اجتثاث جذورها- إلا الهلاك المحقق عاجلا أو آجلا. (المترجمة).