القائمة الرئيسية


قراءات: قراءة في كتاب التأويل النسوي المعاصر في قضايا المرأة الشرعية – دراسة نقدية

26 مارس, 2020

  • شارك

أ.منال الدغيّم

تشهد المنطقة المحلية موجة نسوية يسارية عارمة، تبرز أفكارها ومطالبها في الشبكات الاجتماعية، وتنتشر بين صفوف بعض الفتيات والشابات، ولها عليهن سطوة عبر غواية الجانب الحقوقي الإصلاحي من ذلك الفكر، مما ساعد في تسرب هذا التيار إلى المشهد الفكري وذيوع أفكاره مجتزأة عن أصولها ومآلاتها، فمقل منها ومستكثر.
تقرر القوانين الطبيعية في حركة الأجسام – ولعل الأفكار تدخل في ذلك – ما يسمى بالقصور الذاتي، إذا يتولد لدى الجسم عند دفعه إلى اتجاه ما؛ دافعٌ داخليٌّ للحركة في الاتجاه المعاكس، لأجل المحافظة على ثبات الجسم ووسطيته وبقائه على السطح.
ولذا، فمن المتوقع أن تشهد المنطقة المحلية محاولة ذاتية للعودة بهذا الجنوح النسوي اليساري، إلى مرحلة التصالح والتوافق، لكن مع المحافظة على أصول النسوية الفلسفية، وحينئذ لن يكون الاصطدام بالشريعة وأحكامها ونصوصها صريحاً فجَّاً، بل ربما يكون بواسطة ما يسمى بالنسوية “التلفيقية”، أو النسوية “الإسلامية” كما يسمون أنفسهم، ويمكن أن نجري هذه التسمية تنزلاً اصطلاحياً فقط.
تتحاشى النسوية “الإسلامية” الدخول في مواجهة مع النصوص الشرعية التي تقف دون أفكارها وآرائها، وذلك لما تعلمه من مكانة النص الرفيعة في وجدان المسلم، بالإيمان والتعظيم، والانقياد والتسليم، وما هو أبعد من ذلك من الحاكمية والتشريع خاصة في المدونات الفقهية – وما يعتمد عليها من المدونات القانونية – في أحكام الأسرة، في كثير من بلدان العالم الإسلامي.
ولذا فهي تعمد إلى سلوك طريق ملتف حول دلالات هذه النصوص، بواسطة ما يسمى بإعادة التأويل، والقراءة الحداثية، والمنهج التفكيكي، ومحاولة قصر هذه النصوص على حيزها التاريخي المحدود، أو تعطيل عمومها لتكون خاصة بأعيان أسباب النزول مثلاً، هذا في أحسن الأحوال ومع قبول النص، والأبعد من ذلك حمل الألفاظ على معان لا تقبلها لغة العرب، أو تتعارض مع دلالات نصوص أخرى، مما ينقض المقصد الشرعي ويخل بالأصل الحاكم.
تسللت النسوية الإسلامية – في التأليف والبحث والدراسات والمحاضرات – إلى البلدان الإسلامية التي شهدت ظهور التيار النسوي الفلسفي في فترة مبكرة، ثم كان فيما بعد دخول النسوية الإسلامية بأدوات ومناهج مريبة إلى سجالات المرأة، وحيز الجدل الشرعي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي، وقد بقيت وفية لجذورها وأصولها.
يأتي هذا الكتاب للباحثة الكريمة أ.سامية بنت مضحي العنزي، كمحاولة لبيان معالم هذا المنهج التلفيقي، وكشف الأدوات القرائية الزائفة التي يعمد بواسطتها إلى تشريح النصوص وفصلها عن سياقاتها اللغوية والشرعية والمقاصدية، وذلك عبر تناول الباحثة لأبرز خمس قضايا تمثل بؤراً مركزية مثيرة للجدل في الطرح النسوي، وهي: المساواة، القوامة، التعدد، الحجاب، الميراث.
تستفتح الكاتبة بمقدمة تؤصل فيها لأهمية الأدوات في الممارسة القرائية، وأهمية سلامتها وصحتها واستقامتها واتساقها مع المنهج الشرعي العام، وأن دخول الانحراف والتزييف على أدوات القراءة سيؤدي حتماً إلى نتائج مخالفة وخارجة عن الإطار القويم.
انتهجت الكاتبة منهجاً معيناً في عرض لكل فكرة، ابتدأته بتناول الأفكار النسوية التلفيقية بموضوعية وكما هي، وبالتركيز على المواضع المشكلة في النصوص والسياقات، ثم هي تتبع ذلك بنقد فكري أو لغوي أو ما سواه من أدوات النقد العلمية، ثم تعمد بعد ذلك إلى تجلية المنظور الشرعي لتلك القضية، تأصيلاً وتأسيساً وبياناً.
أول فصول هذا الكتاب كان في المساواة التامة بين الرجل والمرأة، والتي ارتكز النقد النسوي لها على موضوع قصة الخلق، أي خلق آدم وحواء في القرآن والسنة، فعمدت نسويات كثر – رصدت الباحثة أقوالهن – إلى تناول نصوص المساواة بأدوات مغايرة خلية من المنهج العلمي، لأجل الخلوص إلى رفض الاختلاف الفطري بين الرجل والمرأة، وعلى إثر ذلك ركزت الباحثة في البدء على نقد الأداة المساواتية التي قرئت بها النصوص أولاً، وذلك بتفنيد المساواة المطلقة علمياً وما يتبع ذلك من إلغاء أي اعتبار للخلقة الإنسانية والفطرة البشرية، ثم انتقلت إلى جلاء نظرة الإسلام للخلق والإنسان والحياة، وذلك من المصادر التفسيرية والحديثية وبأدوات اللغة والمقاصد الكبرى، حتى خلصت إلى أن سمات الخلق وخصائص الدور للمرأة لا يعني الدونية والتهميش.
كان الفصل الثاني في القوامة، وقد استندت الكاتبة – بعد عرض أقوال النسويات وربطها بأصلها الفكري – على تأسيس المنظور الشرعي لمفهوم القوامة، ابتداء بذكر المعاني اللغوية، وأسباب القوامة، ثم إيراد أسباب النزول، وإن كان بعض ما أوردته في ذلك بحاجة إلى نقد حديثي صناعي لتحقيقه، لكنها أحسنت فيما بعد في بناء الرؤية الشرعية للقوامة على الخصائص اللغوية والأصولية المنهجية القويمة، وما يلي ذلك من تقرير المساواة العادلة بين الجنسين في الإسلام، وانطلاق ذلك من مركزية قيمة العدل الكبرى.
مما قد يراجع في هذا الشأن؛ في المفهومين السابقين؛ ما كان من الإشارة – مع إنها عابرة – إلى بعض المعلومات البيولوجية في تقرير حقيقة شرعية، وفي النفس شيء من هذا المنهج، لأن مناهج الاستدلال للحقائق الشرعية تقوم على الانقياد والتسليم بالمقام الأول، مع فهم العلل والحكم في دائرة الشريعة ووفق أصولها ومآلاتها، أما المعلومات البيولوجية فربما كانت تجريبية ومتفاوتة وقابلة للنقض والقَلْب.
ثم انتقلت الباحثة إلى قضية (تعدد الزوجات)، فافتتحت الفصل بأقوال النسويات اللاتي حاولن فيها تعطيل الحكم وتأويله لأجل تفريغه عن دلالاته التشريعية، أو حصره في نطاقه التاريخي بتعسف لا يخفى، ثم تناولت الباحثة تلك النصوص بالنقد العلمي والموضوعي، مع إبراز المبررات الاجتماعية الشاملة بتوسع، أعقبت ذلك بذكر المنظور الشرعي لتعدد الزوجات في دراسة رصينة لأسباب نزول الآيات وتأويل العلماء لها باستعمال الأدوات اللغوية المتقررة والقواعد الفقهية المتضافرة.
احتلت قضية الحجاب مساحة كبرى في جدليات قضايا المرأة، وذلك مع تصاعد موجات الحداثة منذ القرن التاسع عشر، وبروز قيم ذات بنية فكرية مغايرة مثل الحرية والاستقلال، مما أدى إلى قراءة أحكام الحجاب بواسطتها، لتوصم هذه الأحكام بالرمزية في تأخير الجنس الأنثوي في الشريعة، والتوجس منه، وإرادة تعطيله، وأنه تجسيد لنتاج النظام الأبوي المسيطر على أحكام الفقه الخاصة بالنساء، إلى آخر ذلك من الآراء المجردة التي لا ترجع لمرجعية علمية منهجية، إلا ما يكون من محض الهوى، واتباع المرجعيات الفكرية الغربية المتجذرة.
ولعل قضية الحجاب من أكثر القضايا التي يبرز فيها استعمال أدوات التأويل المتعسفة على اختلافها، بدءاً بادعاء بدعية الحكم، مروراً بحيز السردية التاريخية، وانتهاء بادعاء التفسيرات البشرية للنصوص والتي تجلت فيها إرادة رجال الدين في عزل النساء وإقصائهن.
بعد بسط لهذه الأقوال، عرضت الباحثة نقداً ذا جوانب متعددة فرضها تعدد جوانب الطرح النسوي، ما بين عقدي وفكري وشرعي وتاريخي، أعقبت ذلك بتأسيس الرؤية الشرعية للحجاب، انطلاقاً من أسباب النزول – في استقراء ثري لها مع تفاسيرها – لتخرج باستخلاص معالم العموم والشمول والبناء لمفاهيم شرعية مركزية وكبرى، كالحشمة والفضيلة والأمان والاحترام، مما يتجاوز تلك التأويلات النسوية المغالية ويبطلها.
كانت آخر تلك القضايا في الميراث، وقد قامت الدعاوى النسائية التلفيقية حول هذه القضية على دعوى ذكورية التأويل الفقهي، وخصوصية الظرف الزماني الذي نزلت فيه تلك الأحكام، ونسبية الدوافع التي أدت لمثل هذا التمييز في منح المرأة نصف نصيب أخيها، ويلاحظ أن التأويل النسوي هنا اصطدم بقطعية النص القرآني في هذه القضية، مما جعله يلتفت إلى مثل هذه المسالك المخاتلة، من أجل تعطيل مقتضى النصوص وحصره في النطاقات المحدودة.
انطلقت الباحثة في تفنيد دعاواهم من أصل ردّ الاجتهاد في مورد النص، والتفريق بين القطعي والظني، والثابت والمتغير، وفي هذا السياق كذلك، التفريق بين العلة والحكمة، وأن تغييب هذا الفرق أدى إلى الشغب على الحكم الشرعي بالمراوحة بين العلل والحكم.
اشتمل النقد الفكري والموضوعي للطرح النسوي على مفاهيم علمية شمولية، وأدوات منهجية رصينة، جمعت أحكام الفروق في الميراث بين الرجل والمرأة لتنظمها في رؤية مؤصلة لأركان الهندسة الاجتماعية في الإسلام، مع تأسيسها على قواعد الانقياد والتسليم والديانة.
وكنظرة شاملة لكتاب الباحثة، لم يكن تناولها لهذه القضايا مستغرقاً في جزئياتها وتفاصيلها فحسب، وإن بسطت القول في هذا الجانب، لكنه كان مؤسساً لقواعد كبرى في رد التأويلات النسوية المعاصرة لهذه القضايا، مثل التأكيد على أصل العبودية لله تعالى والإسلام له، وممارسة الاستقراء العلمي لأقوال العلماء والمفسرين وجمعها في تكامل وتضافر، والتسلسل مع فهم السلف الصالح والعلماء الراسخين في العلم للنصوص والأحكام، وتحديد الأدوات المنهجية المرضية في تناول القضايا الشرعية وفهم النصوص واستنباط الدلالات منها، وبعد ذلك كله، جلاء الأصول المركزية الثابتة في القضايا الاجتماعية في الإسلام، وما يحف بها من مقاصد وغايات.
والحقيقة أن الطرح النسوي التلفيقي للقضايا الشرعية؛ لا يقتصر على إثارة الجدل الفكري فحسب، فكما هو مشاهد في الأوساط التي قامت فيها هذه الحركات التأويلية مبكراً، نجد أنها اتخذت لنفسها مسارات طموحة وارتقائية عليا لما بعد المرحلة التنظيرية، وذلك بالمطالبة بالتغييرات الدستورية والقضائية – في أحكام الأسرة – استناداً إلى رؤيتها للمفاهيم الشرعية، وهي التي تدعي أنها لا ترد الحكم الشرعي بل تعيد قراءته، وإن فرغته – فيما بعد – من مضمونه ودلالاته.
أحسب أن هذا الكتاب محاولة مرحلية مهمة، وإضافة جيدة إلى الجهود التي ينبغي تعددها وترتيبها لأجلل مجابهة النسوية التأويلية، إذ يبرز مكمن الخطورة فيها بادعائها الانطلاق من الشريعة وبلغة شرعية أحياناً، فكان الرد عليها يتطلب جهداً تعددياً في أكثر من منحى، في الأدوات والمقاصد والمناهج، لأجل المحافظة على كيان (قضايا المرأة) متصلاً بأصول الشريعة ومقاصدها وجهود الإصلاح الذاتي والمرضيّ فيها، ولا يزال الميدان رحباً لمزيد من هذا الطرح.

                                                                                                                          مركز باحثات لدراسات المرأة

اشترك في نشرتنا البريدية