القائمة الرئيسية


مقالات: الجنس والجندر أيهما يحقق المكانة للمرأة؟

7 أبريل, 2020

  • شارك

من المعلوم أن النسوية حركة شديدة التعقيد والتباين والتنوع من الداخل، ويخطئ من يجمع النسويات كلهن في سلة واحدة، لكن القاسم المشترك في كافة التيارات، وموجات النسوية الثلاث القناعة بأن المرأة تحتل -ظلماً– مكانة أدنى من تلك التي يحتلها الرجل[1].

أي أن المكانة الجديرة بالمرأة هي الغاية التي تعلن النسويات أنها تسعى لتحقيقها. وليس بخافٍ على أحد أن ذات الغاية صارت هي السلاح الذي يتم إشهاره في وجه كل من يقف أمام الاستبداد النسوي، فمن ذا الذي يرفض رفاهة المرأة وتبوءها المكانة التي تستحقها؟ بل صارت “المكانة” هي الاستراتيجية التي يتم بها ما يُعرف بـ “تطويع المهاجمين”، وتليين عريكتهم؛ للتنازل عن بعض الثوابت والأخذ بقوالب جاهزة تُحقق المكانة المزعومة.

و “مكانة” المرأة ليست مجرد كلمة أو شعار أو حتى مجموعة من الإصلاحات يتم الأخذ بها لإرضاء المطالبات بها، وإنما هي منظومة يكمن وراءها خلفية فلسفية تتطلب تغييراً جذرياً في كافة مناحي الحياة، حيث تنظر النسويات على اختلاف تياراتهن ومذاهبهن الفكرية إلى الرجل على أنه مسئول مسئولية كاملة عن معاناتهن، ومن ثم ناصبنه العداء –مع تباين نسبة العداء وأسلوب إدارة الصراع– وزعمن أن الرجل قد اختلق فكرة تقسيم الأدوار؛ كي (يزيف وعي المرأة)، ويقنعها بأن دورها هو (إعـادة إنتاج الـعنصر البشـري)، أي الحمل والإنجاب، فتقنع بالمجال الخاص (الأسرة)، بدعوى أنها مؤهلة له؛ لأنه يتفق مع تكوينها البيولوجي، وينطلق هو للعمل في المجال العام (الخارج) بما يضمن له السيطرة عليها، عن طريق التحكم في الموارد الاقتصادية يحظى بمكانة عالية؛ لأنه يعمل في الخارج (المجال العام)، بينما المرأة «مهمشة»، وفي وضع دوني؛ بسبب عملها في الأسرة (المجال الخاص).[2]

أي أن “المكانة” ترتبط ارتباطا وثيقا داخل هذا المنظور بالبعد المادي الاقتصادي؛ حيث العمل بالخارج والتحكم في الموارد الاقتصادية، ومن ثم لتصحيح الأوضاع ونيل المرأة ذات المكانة ينبغي حيازتها للموارد وخروجها للمجال العام شأنها في ذلك شأن الرجل، وتردد النسويات العرب ذات المقولات برغم أن هذا الارتباط إنما هو على ضوء تجربة أوروبا الصناعية، وكما تقول جوليا كلانسي: “التعريفات التقليدية للإنتاج تربطه بلا فكاك بما يسمى (المجال العام) وهو مكان عمل وحيز مُعرف على ضوء تجربة أوروبا الصناعية، حيث يرتكز تقييم العمل والإنتاج على عنصريين رئيسيين:

أولاً: أن يبلغ ذلك العمل درجة معينة من (المؤسساتية) ويُمارس في محيط غير منزلي.

ثانياً: وجب أن يكون له مقابل على شكل مبالغ نقدية”[3].

وبطبيعة الحال يُقصي هذا التعريف -العمل المنتج والذي بدوره تتوقف عليه مكانة الفرد- النساء ربات البيوت، واللواتي يقبعن فيما اُصطلح على تسميته بالمجال الخاص، ويستلحق هذا مفهوماً آخر وهو “تأنيث الفقر”، فقرار المرأة في بيتها ورعاية أسرتها غير مدفوع الأجر، كما أنه يشغل كل وقتها، فلا تجد فرصة للخروج إلى سوق العمل[4].

أي أن فقر النساء بسبب قرارهن في البيت والاستجابة لطبيعتهن البيولوجية، وليس النسق الثقافي الطافح بالفردية، ويعتبر المستفيد بالأساس من إيهام النساء بالفقر ما لم يخرجن للعمل هو النظام الرأسمالي، حيث خلق اقتصادا قائما على تحفيز وخلق مستمر للاحتياجات الجديدة التي تحبذ العمل النسائي، باعتباره مصدراً للإيرادات الإضافية[5].

إذن التقت مصالح الرأسماليين مع الفكر النسوي الساعي إلى الندية المطلقة للمرأة مع الرجل في كافة مناحي الحياة، حتى وإن ناءت بحمل تبعات هذه الندية طبيعتها البيولوجية. بل على العكس، إيهامها بأن هذه الطبيعة بمقدورها تحمل هذا التشديد، وأنها لن تئن تحت وطأة الأعباء الجديدة التي ستُلقى على عاتقها، فهذا أفضل لها من الرضا بهذه الطبيعة على حالها. فهذا الاختيار الأخير هو سبب تدني مكانتها، ولن تستقيم لها الأوضاع إلا بإحداث سيولة في الأدوار، فلا وجود لما يسمى بأسس فسيولوجية ثابتة تُحتم توزيع الأدوار تبعاً لها، وكما تقول إحداهن:

«التمايز والتباين والتقييم الهرمي لكل من الأدوار الثلاثية: (الإنجابي، والإنتاجي، والمجتمعي القيادي) للمرأة والرجل لا يستند إلى أساس فسيولوجي ثابت، وعليه يمكن تعديل وتغيير أدوار النوع الاجتماعي، وسد الفجوة في التمييز بين المرأة والرجل في المكانة الاجتماعية، وفي دور كل منهما»[6].

ودعونا نسير مع هذا الطرح إلى نهايته، ونقبل بمصداقية الفرضية النسوية بأن المجتمع وليس البيولوجيا هي التي لعبت دورها في تقسيم الأدوار على أساس الجنس، والتي ترتب عليها حيازة الرجل للمكانة الأعلى والمرأة المكانة الأدنى، بما يجعل الحل المفترض من قبل النساء أن يحل الجندر محل الجنس في تقسيم الأدوار، أي يتم توزيع الأدوار بمساواة مطلقة بغض النظر عن الجنس.

ودعونا نتفق معهن في أن هذا التصور النسوي يتطلب بطبيعة الحال تغييرا جذريا في كافة مؤسسات المجتمع كي نصل إلى هذه الغاية، بدءاً من إنشاء دور رعاية للأطفال تمولها الدولة استجابة للواقع الجديد، حيث كل البيوت خاوية من ساكنيها، فالكل في العمل العام نساءً ورجالا، مروراً بتغيير التعليم العام لترسيخ الثقافة الجديدة، وصولاً إلى التجنيد الإلزامي للجميع والتواجد حيثما تتطلب المهمات القتالية …

لكن لنا هنا حق مشروع في طرح مجموعة من التساؤلات:

 ما الوضع إذا كانت الفرضية خاطئة؟

وهل هذه هي المدينة الفاضلة التي تقدمها النسويات للنساء؟

هل “مكانة” المرأة المزعومة سوف تتحقق بإلغاء التمايز البيولوجي؟

هل تسلم حينها من الصراع بين حتميتها البيولوجية والدور الذي يعاكس هذا؟

وماذا لو انتصر التمايز البيولوجي (وهذا ما تؤكده كفة البحث العلمي التي ترجح يوماً بعد يوم) ماذا سيكون موقف المشروع النسوي حينها؟

ألن يكون حصاد ما قدمته الأجندة النسوية هو خلق واقع أسوأ لكل من النساء والرجال والأطفال!

اقتحمت واحدة من الباحثات مجال التباين بين الجنسين هل هو بيولوجي أم يرجع للتنشئة؟ أملاً في فضح أكذوبة أن الاختلافات السلوكية والذهنية بين الجنسين هي نتاج اختلافات بيولوجية، لكنها بعد مراجعة عدد لا نهائي من البحوث حول الموضوع أعلنت أنها غيرت رأيها، حيث صرحت بوجود اختلافات حقيقية بين الجنسين، وفي بعض الأحيان اختلافات هائلة فيما يخص بعض القدرات الذهنية، وأنه لا شك في تأثير العادات الاجتماعية على اكتساب بعض ملامح التمايز الجنسي، لكن هناك دليل قوي على أن الاختلافات البيولوجية بين الجنسين لها الدور الأكبر في تكوين العادات[7].

كما استعرض الدكتور ستيفن رودس تجربة واحدة من النسويات حاولت أن تربي ولدها الصغير بأسلوب رقيق غير عنيف ومحايد جنسياً، لكنه رغم ذلك أظهر ميولاً نهمة نحو ألعاب المسدسات، وحيث لم توفر له ألعابا من المسدسات في المنزل، أصبح يستخدم ألعاباً أخرى بل وحتى الطعام ليصنع ما يشبه المسدسات، بينما عانت واحدة أخرى من النسويات من رفض ابنتها الصغيرة ارتداء أي شيء ما عدا الفساتين والجوارب الطويلة[8].

ويفرض التمايز البيولوجي وانعكاساته على اتخاذ القرار نفسه، حتى على النساء اللواتي خرجن للعمل، بما يضع أمام إصرار النسويات على تجاهل أو التقليل من شأن العامل البيولوجي (الجنس) علامة استفهام كبيرة، حيث “وجد استطلاع للرأي لمجموعة من النساء العاملات أن ثلاثة أرباعهن اعتبر أن الارتباط بساعات عمل مرنة في الوظيفة هو أمر (هام للغاية) وهو يعني أن كثيراً من النساء عازمات على التضحية بالمرتب الأكبر في مقابل مرونة أكثر أو ساعات عمل أقل من النساء العاملات بوظائف الدوام الكامل.[9]  

وترى شريحة كبيرة من نصيرات المرأة في الولايات المتحدة الأمريكية أنه إذا تم تفعيل “منظومة الجندر”، وتحققت المساواة المطلقة، فإن شريحة كبيرة من النساء العاملات سوف يتضررن جراء هذه المساواة، حيث أن:

  • كثيرا من الأعمال سوف تتوقف عن توفير نظام ساعات العمل المرنة التي تجدها معظم النساء أكثر موائمة لمتطلباتهن.
  • الراغبات في الانخراط في العمل إذا ما توفرت ترتيبات معينة (ساعات أقل أو العمل من المنزل) قد يصير حصولهن على وظيفة أكثر صعوبة.
  • الحلم النسوي (التناصف في كل شيء) يجبر شريحة من النساء على تبني أدوار لا تمثل طموحاتهن الحقيقية، ويتجاهل حقهن في الاختيار. فبعضهن غير راغبات في قضاء حياتهن يصارعن من أجل اعتلاء أعلى درجات السلم الوظيفي، فبعض النساء لديهن قناعة بأن المال ليس كل شيء، فهو يعني عدد ساعات عمل أقل وعدد ساعات أسرية أطول[10].

 نحن أيضاً وبرغم أننا قد نصير هدفاً في مرمى نيران النسوية، نرفض منظومة الجندر لسببين رئيسيين:

  • أن ملاحظاتنا اليومية تقودنا إلى الاستنتاج المحظور، وهو أن التمايز الجنسي ليس إفرازاً اجتماعياً مصطنعاً، ولا شك أن عادات المجتمع تلعب دوراً في تشكيل سلوكياتنا، لكن الاختلاف بين الجنسين يحفر بعمق في كينونتنا البشرية، وما نرسمه من عادات وسلوكيات.
  • أن “الجندر” ليس بالبراءة التي يدعيها من يطالبون به، والسبيل لتحقيق المكانة للمرأة، وإنما هو المطية للتبشير بالتغريب بكامل منظومته. وكما صرحت بذلك ماري إلين هجلاند في دراستها عن النسويات، واللواتي وصفتهن بالنسويات العلمانيات ذات الخلفية الإسلامية، قائلة عنهن:

“يرين أن الإسلام بطبيعته مجحف بالأنثى، استناداً إلى ما في مبادئه من إباحة لتعدد الزوجات ومن عدم التساوي بين الجنسين في السلطات، وفي الإرث، وفي اعتبار شهادتي الاثنتين أمام القاضي مساويتين لشهادة الذكر الواحد ومن …، وفي رأيهن أن التساوي النوعي يمكن أن يتحقق فقط في مناخ علماني”.[11]

ويمكن الخروج من هذه المتاهات والفيء إلى الفطرة التي تستقيم مع الشرع، الذي يجعل أساس “المكانة” ليس القوة الاقتصادية، أو الجسدية، أو العرق، أو حتى الجنس، وإنما (التكليف)، والذي هو أساس إنسانية الإنسان ذكراً كان أو أنثى دون تأليهه أو تحقيره. وقبول الإنسان تحمل هذا العبء يضعه في مكانة أسمى من بقية المخلوقات؛ لكونه المخلوق الوحيد المؤهل لذلك. ومن هذا التكليف  تتشكل الأهمية الكونية للإنسان، وتظل له هذه المكانة بطاعة شرع الله، وعند الانحراف عنها يهبط بنفسه إلى أدنى المستويات. وإنسانية التوحيد هي الوحيدة التي تحدد قيمة الإنسان بمناقبه، وتبدأ تقييمها له من نقطة إيجابية وهي استواء الفطرة، مما يجعل إنسانيتها غير زاهدة في الحياة، وأخلاقية في آن واحد[12].

وقد لخص مراد هوفمان مكانة المرأة المسلمة بالنسبة إلى الرجل في كلمات قلائل بأنها: “المساواة في الكرامة مع اختلاف في الأعباء، والمساواة في المكانة مع اختلاف في الأدوار، والمساواة في القيمة مع اختلاف في القدرات”[13].

إذن تتأكد “مكانة” الإنسان ذكراً كان أو أنثى داخل النسق الإسلامي بالصلاح، فمنظومة مقاصد الإسلام القرآنية وأحكامه التشريعية تجعل في نهاية المطاف البقاء للأصلح لا للأقوى، سواء في إعمار الدنيا بإصلاح الإنسان، فمجتمعه، فالأمة، فالإنسانية؛ بغية إنشاء نظام يقوم على أسس التعاون والتكافل والتكامل والرحمة، أو في الآخرة بحشره كإنسان صالح في زمرة النبيين والصديقين.

                                                                                                                       شركة أوقاف مركز باحثات

[1] سوزان جيمس، “الحركات النسوية“، محرر في:

تيرينس بول وريتشارد بيللامي، “موسوعة كمبريدج للتاريخ: الفكر السياسي في القرن العشرين”، ترجمة مي السيد مقلد، مراجعة وتقديم طلعت الشايب، القاهرة: المركز القومي للترجمة، الجزء الثاني، عدد 1339، ط1، 2010، ص233-264.

[2] اللجنة الإسلامية العالمية للمرأة والطفل، “مصطلح التمكين“، سلسلة توعوية في قضايا المرأة المعاصرة (6)، السعودية: كرسي أبحاث المرأة السعودية بجامعة الملك سعود، 1434هـ – 2013م، ص16.

ولمزيد من التفاصيل عن هذا الوعي الزائف، انظر:

سوزان موللر أوكين، “النساء في الفكر السياسي الغربي”، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، القاهرة: المشروع القومي للترجمة، ص 334، 335.

[3]  جوليا كلانسي سميث، “امرأة بدون مغزلها”، في:

جوديث تاكر وارجريت مريوذر، مرجع سبق ذكره، ص 54: 58.

[4]– Valentine M. Moghadam, “The Feminization of Poverty and Women’s Human Rights” SHS/HRS/GED, July 2005, page  15. In:https://bit.ly/39Mmbog

[5] صالح سليمان عبد العظيم، النظرية النسوية ودراسة التفاوت الاجتماعي“، جامعة عين شمس: كلية الآداب، دراسات العلوم الإنسانية والاجتماعية، المجلد 41، ملحق 1، 2014م، ص643.

[6] بلقيس بدري، “المساواة بين الجنسين والإنصاف وتمكين المرأة.. التغيرات المفاهيمية والقانونية”، مطبوعات المجلس الاقتصادي والاجتماعي بالأمم المتحدة لغرب آسيا.

[7]  كاري إل .لوكاس، خطايا “تحرير” المرأة، ترجمة وائل محمود الهلاوي، القاهرة: سطور الجديدة، 2010، ص 19، 20.

[8] Steven E.Rhoads,Taking Sex Differences Seriously ( San Francisco, Encounter Books, 2004) ,P 22-23.

[9] Time – Use Survey , “ Bureau of labour Statistics , Department of Labour , September 14,2004.)

. Available at: https://bit.ly/3dB82LC

[10]  كاري إل . لوكاس، مرجع سبق ذكره، ص175، 176.

[11]  ماري إلين هجلاند، مرجع سبق ذكره، ص252.

[12]   إسماعيل راجي الفاروقي، “التوحيد.. مضامينه على الفكر والحياة”، ترجمة السيد عمر، القاهرة: مدارات للأبحاث والنشر، 1431هـ – 2010، ص56.

[13] مراد هوفمان، يوميات ألماني مسلم، ص214، في: خولة درويش، “أولويات المرأة المسلمة”، الأردن: دار المعالي، 2006، ص10.

اشترك في نشرتنا البريدية