7 سبتمبر, 2017
أ.ملاك الجهني
تناولت المقالة السابقة أنموذجًا لمعالجة قضايا المرأة على الطريقة النسوية، إذ لم تترك تلك الكتابات شيئا إلا وأعملت معاول الهدم فيه، والمهمة الأحدث التي اضطلعت بها هذه الأقلام هي سوق جرائر الفقهاء لتكشف عن تحيز قديم ضد المرأة لدى المنظومة الفقهية (الذكورية) على حد وصفهم، مما يُفقد المرأة الثقة بسدنة الفقه.. فالفقه.. فالدين..
وتهتم هذه المقالة بإغلاق الدائرة السابقة من خلال التأكيد على أهمية ما ورد وطرح بعض التنبيهات والتوصيات المتعلقة بالموضوع إجمالا، فمثل هذه الأطروحات الفكرية لم تعد خطابا نخبويا تتداوله فئة محدودة من المثقفين فقد احتلت موقعًا بارزا في مقالات الرأي في الصحافة، وأصبحت من موضوعات البرامج الحوارية على الشاشات، كما أصبحت معروضة بعناوينها الجذابة للعابرين في المكتبات التجارية بما فيها المكتبات الصغيرة في المطارات المحلية، وليست من صيود القراء في الشبكة العنكبوتية أو معرض الكتاب فقط !
ومع التشويه الإعلامي الممنهج والمستمر للمؤسسة الدينية ورموزها في المجتمع، وتلبيس الشذوذ عن الحق للشباب والشابات بوهم الاستقلال الفكري، والقدرة الذاتية المطلقة على الوصول للحقيقة دون الحاجة لوساطة العلماء، مع إحاطة أولئك الشباب والشابات من قبل الخطاب المناوئ بمزيد اهتمام، أصبح للخطابات المتدثرة بالثورية والتنوير وهجٌ خاص لديهم، وإلا فلا يخفى على من عنده أدنى أثارة من علم مدى افتقار تلك الكتابات للمنهجية العلمية.
وتعاملها مع تراث الفقهاء وفقا لسياسة البحث عن العفريت التي نسبها نصر حامد أبو زيد لمخالفيه في أحد كتبه.
فلم تسجل كاتباتها أو كتابها أي سبق فكري من حيث النظرية ومهنتهم الحقيقية هي نبش التراث خدمة لأهداف مرصودة سلفا، وإذا كانت النسوية العربية تقليد للنسوية الغربية فالنسوية السعودية تقليد داخل التقليد .. وتفحُص أية أطروحة سعودية لا تصرح بمراجعها كاملة تفضحها أطروحة نسوية عربية مسكوت عنها، سبقتها بالصدور، وبمراجعة مضمونها والنظر لتاريخ طباعتها يظهر الاقتباس منها في المؤلفات السعودية بوضوح فج!
والموضة الثقافية لدى النسويات وبعض التنويريين السعوديين مؤخرا هي التأسيس والنقل الصريح والمضمر عن الفكر النسوي في دول المغرب العربي، لا عن نسويات عربيات ذائعات الصيت أو سيئاته -كنوال السعداوي مثلا- استغفالا ومخاتلة من قبلهم للقارئ البسيط البعيد عن متابعة أطروحات النسوية المغاربية، والتفافا على وعي المثقف الإسلامي المشغول بتفنيد أطروحات الفكر الحداثوي الأخرى، ومن المفضلات نسويا وتنويريا في السعودية مؤخرا العلمانية التونسية آمال قرامي أستاذة الحضارة بالجامعة التونسية، والتي عارض موظفو الإذاعة التونسية تعيينها رئيسة لإذاعة القرآن الكريم في العام الماضي لمحاربتها الشديدة لمظاهر التدين كالحجاب واللحى، عدا أقوالها المعروفة لدى التونسيين بخاصة عن زواج المسلمة بغير المسلم والمثلية السحاقية وغيرها ..
وإذا كانت هذه هي أسس الكتابات النسوية ومنطلقاتها فليس غريبا أن تحدثنا إحدى النسويات السعوديات عن المثلية الوجدانية اللا أخلاقية التي يُسببها منع الاختلاط أو الفصل بين الرجال والنساء في المجتمع السعودي، فما هذه إلا مقدمة لتلك وليست إحداهما بأولى بالذم من الأخرى..
هذا هو عمل العقل النسوي السعودي في الشرعيات ..
إنه المسبقات التي تفتش عن أدلة إدانة لمدانٍ على كل حال ..
الأحكام التي ينبغي أن تُأول لتساوي بين الجنسين .. وليست المساواة بآخر المطاف فالمتابع للكتابات النسوية في رقعة أوسع، يلحظ أن المطالب الثورية النسوية تتزايد في حركة تصاعدية، وتنزع للتطرف بطبيعتها المؤسسة على ثنائية التضاد والصراع بين الجنسين، والنظرية النسوية لم ولن تكتفي بالمساواة، فالنرجسية الأنثوية حملت بعض منظراتها الغربيات على التمركز حول الأنثى وأفرزت المثلية، وتمجيد الوثنية، وآفات أخرى ..
وتصفح أي كتاب من كتب الفكر النسوي الغربي، بل كتاب واحد من الكتب المحايدة والتي دورها العرض فقط يوقف القارئ في المقدمات أو الهوامش التي تتضمن ترجمة أو تعريفا بمنظرات الفكر النسوي وناشطاته على المثليات منهن بما يبعث على التقزز .
وللتعرف على الظروف التي أفرزت نظرية التمركز حول الأنثى يمكن الرجوع لما كتبه الدكتور عبدالوهاب المسيري حولها إذ نقد هذه النظرية بعلمية فائقة في كتيب قيّم بعنوان (قضية المرأة بين التحرير والتمركز حول الأنثى)، حيث أوضح كيفية انتهاء هذه النظرية بالتفكيك الكامل لثوابت اللغة والتاريخ والمجتمعات، وتمزيق العلاقة الأزلية بين الرجل والمرأة.
ولم يكتف المسيري بالنقد فقط بل قدم رؤية بديلة للفكر النسوي تعالج مشكلات المرأة داخل نماذجنا المعرفية ومنظوماتنا القيمية والأخلاقية وإنسانيتنا المشتركة، إذ يرى أن يتم تناول موضوعات المرأة وحقوقها تحت (حقوق الأسرة ) ثم تناول حقوق كل فرد منها على حدة (حقوق المرأة، حقوق الطفل، …) بحيث يضمن تناولها داخل هذا الإطار عدم تكريس الفصل الحاد بين الجنسين، مع مطالبته بإنقاذ المرأة من النمط الحركي الاستهلاكي، وتغيير مفهوم العمل وإعادة تعريفه من: (العمل المنتِج للسلع والخدمات) إلى: (العمل المنتِج إنسانيا)، مما يعيد الاعتبار لعمل الأم والمرأة في المنزل لدى كل من المرأة والرجل، واستئصال الفكرة الغربية التي تجذرت لدى الجميع وهي أن ربة المنزل لا تعمل.
يطرح المسيري هذه الرؤية إدراكا منه لمآلات النسوية في الغرب، وهي مآلات قابلة للتمدد ثقافيًا، فيقول: ” وربما ظن البعض أن مسألة الاهتمام بالفكر النسوي الغربي من قبيل الترف الفكري، أما الحقيقة فإن هذا الفكر وامتداد تأثيره إلينا يعد من أهم معاول الهدم الآن في قلب مجتمعاتنا الإسلامية” .
والمتابع لكتابات طائفة من الكاتبات السعوديات يلمس تأثرهن بالفكر النسوي بعامة، إذ لا يمكن استبعاده من مكونات خطابهن، ويلمس كذلك تأثر بعضهن بنظرية التمركز حول الأنثى بشكل خاص، فالمتابع لكتابات السعودية وجيهة الحويدر- عرّابة منال الشريف- على سبيل المثال يبدو له بوضوح تأثرها بهذه النظرية بتمجيدها للعهد الأمومي الذي انتشرت فيه عبادة الآلهة الأنثى ونقمتها على العصر الذي سيطر فيه الرجل على الأنثى (1).
فإلام تهدف النسوية السعودية في تدثرها بالشرعيات تارة وطعنها فيها تارة أخرى، وفي أي اتجاه تحث الخطى، وإلى أين سينتهي بها هذا المسير..؟!
تساؤل يمكن الإجابة عليه بالاستفادة من فلسفة التاريخ في دراسة الحركات النسوية في الغرب عبر تشكلها التاريخي.
أما مواجهة هذا الفكر فتحتم على الخطاب الإسلامي تقديم رؤية إسلامية ذاتية لقضايا المرأة كالتي اقترحها المسيري، مع استمرار المضي في معالجة التصورات الاجتماعية الخاطئة حول المرأة، فتتبع الزلات على الطريقة النسوية والتنويرية لم يكن يومًا طريقا للإصلاح، ويؤدي لإيجاد أو زيادة منسوب الشك والحقد وسقي بذرة التمرد في نفس المرأة وهي سبيل لا توصل إلى الحق، بل تحيطه بالغبش من كل ناحية.
وهذا يقودنا للحديث بالمقابل عن علّة أخرى لا تختلف من حيث الأثر والمآل عما سبق وهي استخدام المصطلحات الشرعية من قبل البعض -حتى من صلح منهم – في انتقاص المرأة، كتعييرها بنقص العقل والدين، بإخراج النقص عن سياقه الذي ورد في الحديث، وتجريده عن التفسير النبوي الوارد فيه كذلك، ليصبح نقصا في مطلق الإدراك والوعي، ورقّة في الدين تجعل من المرأة سهلة الوقوع في الرذيلة، فكلا الموقفين يشحذ في المرأة التمرد بل يجعلها تتساءل عن ازدواجية خطاب يكرمها ويهينها في الوقت نفسه، فالحط من الكرامة الإنسانية مستفزٌ لأيٍ كان، والقارئ لتاريخ النسوية الغربية يجد تفسيرا لثورتها على النظرة الكنسية للمرأة، وكلٌ يحمل ما اكتسب من الإثم في إبعاد المرأة عن الدين وتبغيضه لها.
ففرقٌ بين تقرير شرعي من لدن لطيف خبير، وتفسير اجتماعي يوافق هوى في احتقار المرأة، فالتسليم لحكم الله يقتضي إذعان العبد لحكمه ذكرا كان أو أنثى، ولو كانت المرأة دون الرجل بمئة درجة لا درجة واحدة فإيمانها بعلم المشرع يحملها على التسليم بهذه التراتبية ونفي أي حرج يتعلق بها، مع يقينها بأن وراءها ماوراءها من الحِكم، والخير كل الخير مقترن بها، مادام الحاكم الآمر هو الحكيم العليم، لكن أن يُنسب للشرع ما هو منه براء فهذا ما مغبته سيئة كل السوء.
ويجب ألا يُنسى أن معظم من انحرفن عن الجادة بدأن بالنقمة على أخطاء اجتماعية في صورة مواقف أسرية تعرضن لها أو ظلم اجتماعي من بعض الجهات أو الشخصيات المعتبرة في نظرهن، ثم تطور بهن الأمر إلى النقمة على الدين، ولذا كان الإصلاح الاجتماعي من واجبات الدعاة إلى الله، وكثير من المشكلات الاجتماعية كالعضل، وحرمان المرأة من الميراث تصدر لها العلماء ولم يخشوا مصادمة المجتمع بمناقشتها وحلها، وهذا مايؤمل استمراره في تصحيح ممارسات وتصورات شبيهة ضد المرأة، فالإصلاح الديني لا يتناول جانبا دون جانب بل يشمل جميع المخالفات بلا استثناء، مما يمنحه قوة وقبولا ليسا لسواه.
ثم إن استغلال التيار المخالف للأخطاء الاجتماعية في الهجمة على الدين يجب ألا يدفعنا للتغاضي عن أخطائنا أو تقديس ممارساتنا الاجتماعية، وتخوين من يتقاطع معهم في نقد تلك الأخطاء، فهذا الموقف اللاواقعي يعيق الإصلاح، ولا يوقف الاستغلال، بل يتيح الفرصة لتقديم التصورات المنحرفة كحل أو بديل لما انتُقد، وقد أشار الشيخ عبدالعزيز الطريفي -حفظه الله- إلى معنى قريب من هذا في إحدى تغريداته بقوله: ” مما يعيق المصلح الصادق وجود من يشاركه في بعض نصحه من تيارات جانحة عن يمين وشمال، فترسم له صورة ذهنية معهم كما ترسم للعابر صورة مع العابرين”.
ولايعقل أن يحتشد الإسلاميون للدفاع عن الإسلام في جهة واحدة أو جهتين تاركين مسارب لهدمه هنا وهناك، ومن تلك المسارب ماذكر من الكتابات النسوية المتلبسة بالمنهجية العلمية والتي مازالت تؤكد على سلبيتها وعدم تقديمها لبحث إيجابي في موضوع المرأة، يعالج مشكلاتها داخل المنظور الإسلامي، ولا يباعد الشُقة بينها وبين الدين.
وقد بات من الضروري والحال هذه تكثيف الحديث عن الأسس والمسلمات الشرعية، ومنح المخاطبين رؤية تفصيلية لعدة موضوعات بات غموضها عليهم سببا للحيرة والزيغ والانحراف، كخصائص الشريعة وعلومها، والموقف من التراث، وفطرية الاختلاف والموقف منه، وقصور التطبيق الاجتماعي عن المعايير الإسلامية، وحدود عمل العقل ومجالاته، وغيرها من القضايا التي سببت قلقا وتوترا لدى البعض، ويُرجى لهذه الرؤية التفصيلية أن تُكوّن لدى المسلم ما ذكره ابن القيم-رحمه الله- في حديثه عن أهمية التعرف على مذاهب المخالفين في الفوائد، وهو: “معرفة سبيل المؤمنين من حيث التفصيل وسبيل المخالفين من حيث الجملة والمخالفة، وإن كل ماخالف سبيل المؤمنين فهو باطل وإن لم يتصوره على التفصيل”، فهي رؤية كفيلة بخلق تصور شمولي يقي صاحبها من الانجراف مع الشبهة مبدئيا، والتي لا مندوحة من مناقشة تفصيلاتها حين تستشري، ومع هذا فتبقى العناية ببيان الحقائق الإسلامية أولى الخطوات الوقائية في هذا المجال.
المصدر: