8 أكتوبر, 2023
أ. زينب صلاح
تمهيد:
شغلت مسألة حقوق المرأة -وما زالت تشغل- مساحة كبيرة من النقاش، والجدل على الصعيدين النظري، والعملي قديمًا وحديثًا.
وقد كانت الحركات النسوية من أهم مراكز المطالبة بحقوق النساء في الغرب على مدار القرنين الماضيين؛ ففي القرن التاسع عشر، بدأت المرأة الأوروبية تطالب بحقها في الانتخاب، والتعليم، والتملك فيما عرف بالموجة النسوية الأولى، وفي ستينيات القرن العشرين، تركزت مطالبها أكثر على الحرية الجسدية، والمساواة بالرجل في الأجور، وفي مجالات العمل المختلفة، وعرفت هذه المرحلة بالموجة النسوية الثانية[1].
أما عن المرأة العربية، فقد ظهرت واحدة من أهم بواكير الحركة النسوية عندما تشكلت حركة تحرير المرأة في مصر، والتي كانت من أبرز زعيماتها الدكتورة درية شفيق، ونبوية موسى، وهدى شعراوي في بدايات القرن العشرين[2] متأثرات في المجمل بأحوال المرأة الغربية آنذاك.
فبعد عودة هدى شعراوي من المؤتمر الدولي الخاص بالمرأة في روما عام 1923م؛ أسست في العام نفسه الاتحاد النسائي المصري، ثم الاتحاد النسائي العربي عام 1924م[3]. وقد تنوعت المطالب حينها كما كان الحال في نظائرها الغربية لتشمل المطالبة بالحق في المشاركة السياسية، والمشاركة في العمل المدني بإنشاء الجمعيات الخيرية، وبعض مسائل الأحوال الشخصية؛ مثل: المطالبة بتقييد حق الطلاق، وتعدد الزوجات، وحق الفتيات في التعليم.
وفي ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، كانت قد تأسست جمعيات نسائية كثيرة تدعو إلى تحرير المرأة في جميع المدن، والقرى، دعمتها الهيئات الدولية، والإقليمية. وكانت هذه الجمعيات في ظاهرها تهدف إلى نشر الوعي، وتعليم النساء بعض المهن، وتقديم المساعدات المختلفة لهن، لا سيما المساعدات الصحية. ومنذ نهايات القرن العشرين وحتى يومنا هذا، زاد الاهتمام النسوي بمفهوم الجندر، وإلغاء كافة أشكال التمييز الجنسي مع المطالبة بالمساواة المطلقة مع الرجل في كل مجالات الحياة تقريبا[4].
وفي الوقت الراهن، انتشر الحديث عن حقوق النساء في مجتمعاتنا العربية والإسلامية انتشارًا كبيرًا، وذلك بعد تغيرات قانونية، واجتماعية كثيرة حصلت في قضايا المرأة دوليًا وعالميًا.
فما الأسباب التي أدت إلى تصاعد هذه الظاهرة في وقتنا هذا؟
وما أصول الخلل فيما نشهده من نقاشات ومطالبات؟
وما هي نظرة الشريعة الإسلامية لحقوق المرأة المسلمة وسط سيل الأفكار الجارف الذي نعيش فيه في هذه المرحلة؟
وما موقع المرأة المسلمة من كل ذلك؟
المحور الأول: أهم العوامل التي أدت إلى ارتفاع ظاهرة المطالبة بحقوق المرأة.
تعيش المرأة المسلمة في واقع يعج بالأفكار المتضاربة، والأصوات المتعالية في العالم الافتراضي، والواقعي على حد سواء حول ذاتها، وأدوارها، وأخلاقها، ومساواتها بالرجل.
وكل منها يؤثر على أفكارها ومعتقداتها الخاصة، كما يتحكم بصورة أو بأخرى في النموذج الذي تريد المرأة أن تحتذيه، والأهداف التي تسعى إلى تحقيقها.
وكل منها يحدثها عن حقوقها، ويدعوها إلى المطالبة بها، ومن أهم أسباب علو هذه الأصوات وقوة تأثيرها:
–شيوع الجهل؛ فالمرأة المسلمة إذا كانت جاهلة بحقوقها المكفولة لها بالفعل يسهل خداعها، وتمكُّن الأفكار الخاطئة من عقلها؛ لأنها لا تملك أساسا راسخًا من المعرفة تبني عليه تصوراتها، وأحكامها؛ فالجهل محبَس بغيض، وعلى المسلمة العاقلة أن لا تبقى رهينته، فتنعزل عن العالَم، وتتخلى بذلك عن نفع نفسها وأمتها.
–وضع المرأة دوما في قالب الضحية؛ فلكثرة ما تعرضت المرأة له من انتهاك للحقوق على مدار التاريخ، صارت الصورة المترسخة في الذهن عن المرأة ابتداءً هي أنها مظلومة، ومستحقة للدعم، مع أنها قد لا تكون كذلك في بعض الأحيان. وربما يستغل بعض المغرضين وجود أزمة حقيقية تعاني منها المرأة في افتعال مشكلة أخرى لا تمثل أزمة من الأساس.
–التأثر بالنموذج الغربي؛ فمع التقدم المادي الذي حل بالحضارة الغربية، صار كثير من الناس ينظرون إلى الأفكار الغربية على أنها صحيحة، وعلى أن حاملي ألويتها هم نماذج ينبغي الاقتداء بها، فصارت الأفكار الغربية الوافدة تُتلقى بوصفها المنقذ من الضعف الحضاري حتى وإن كانت هي نفسها يعتريها الفساد، والسبب في ذلك -كما يقول ابن خلدون- هو “أن النفس أبدا تعتقد الكمال في من غلبها وانقادت إليه، إما لنظره بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه أو لما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي إنما هو لكمال الغالب”[5].
–تحول المطالبة بحقوق المرأة إلى مؤسسات وفروع دراسية أكاديمية؛ فبدلا من أن تكون المطالبة بالحق منطلقة من مشكلة قائمة يرجى حلها فتنتهي بنهايتها، نجد أن البحث عن مشكلات أخرى يصير أحيانا هدفا لاستبقاء المؤسسة التي تطالب بالحق[6].
–الطفرة الهائلة في وسائل التواصل مع دعم بعض الأفكار النسوية؛ فقد أدت العولمة إلى سرعة انتشار الأفكار والمقولات بصورة غير مسبوقة، وإلى انفتاح ثقافات البلدان المختلفة على بعضها، وقد تزامن هذا مع الدعم الإعلامي الكبير في بعض البلدان لأفكار مثل المساواة بين الرجل والمرأة والحرية الجسدية. فانتشرت هذه الأفكار انتشارا كبيرا في بلادنا، وصارت قناعة لدى كثيرين خصوصا من فئة الشابات.
-المعالجة الدعوية الخاطئة لبعض مشكلات النساء المسلمات؛ فبعض الدعاة يسلكون مسالك خاطئة في التعامل مع المشكلات التي تواجهها المرأة المسلمة في الوقت الحالي، منها إنكار المشكلة، أو إلقاء التهم على المرأة إذا سألت عن أمر تستشكله في الأحكام التي تخصها، أو اقتطاع اقتباسات منفرة من بعض كتب التراث ونشرها، أو مقابلة التطرف النسوي بتطرف آخر ذكوري[7].
وهذه الأسباب وغيرها لا تنفي وجود مشكلات حقيقية اجتماعية، وقانونية تعاني منها المرأة المسلمة بالفعل في بعض البلدان، ولكن المقصود هو أن هذه المشكلات ليست هي السبب الوحيد في ارتفاع الأصوات المطالبة بحقوق المرأة لا سيما في الآونة الأخيرة. وأن هناك أسبابا أخرى -كالمذكورة أعلاه- تتسبب في حالة من الغلو والمبالغة، مما يعني أنها ليست كلها صحيحة المنطلقات، والمقاصد. وفي المحور التالي سنبين بعض أصول الخلل في بعض المطالبات الحالية بحقوق النساء.
المحور الثاني: أصول الخلل في بعض المطالبات الحالية بحقوق النساء.
لا شك أن المطالبة بالحقوق في حد ذاتها حق مشروع لصاحب الحق، ولكن فيما يتعلق بحقوق النساء، صار كثير من المطالبين بحقوق المرأة يجمعون في مطالبهم بين الصحيح والفاسد، وربما يقعون في نفس المزالق التي أنكروها على غيرهم، وذلك في أصول المطالب، وفي أفرادها على حد سواء. وفيما يلي، نستعرض بعض أصول الخلل التي يقع فيها بعض المطالبين بحقوق النساء، ومن أهمها:
–تجاهل الخصوصية الأنثوية؛ فالمرأة لها خصوصية جسدية، ونفسية لا تشابه فيها الرجل، وهذه الخصوصية تؤثر في أدوارها وبالتالي فإنها تؤثر في حقوقها.
-إسبال ثوب الحق على ما ليس بحق؛ ومن الأمثلة على ذلك، الدعم الغربي لتقنين الإجهاض حول العالم تحت قناع القضاء على العنف، ودعم الحقوق الإنجابية. فقد ذكرت الكاتبة النيجيرية أوبيانوجو إيكيوتشا أن تأييد تقنين الإجهاض في ولاية إيمو النيجيرية أتى من شبكة النساء الدولية للحقوق الإنجابية (WGNRR) وهي منظمة مؤيدة للإجهاض تأسست في هولندا، وتمولها الوكالة الدولية السويدية للتنمية.
وقد جاء في بيان التأييد أن هذا القانون يمنح النساء “الحق في مباشرة خيارهن الإنجابي، والتمتع بحقوقهن الإنجابية”، ولكن لم تلبث أن تمت الموافقة على هذا القانون إلا وقد خرج النساء، والرجال، والأطفال يطالبون بإلغاء تقنين الإجهاض؛ لأنه مخالف للدين، والثقافة في نظر سكان الولاية (وقد تم إلغاؤه بالفعل).
بينما تسعى بعض المنظمات الدولية إلى تقنين الإجهاض بزعم تقديم الدعم الصحي، ورعاية الحقوق الإنجابية، ترى الكاتبة أن وسائل أخرى من الدعم تحتاجها المرأة في الدول الأفريقية بتكاليف أقل؛ مثل: تقديم المعونات لأجل التعليم والانتشال من الفقر لتحسين أحوال الفرد والمجتمع بدلا من قتل الأجنة في الأرحام[8].
-التناقض في أسس المطالب؛ ومن أمثلة ذلك، المطالبة بالتساوي العددي بين الرجال والنساء في المناصب والمجالات المختلفة، سواء كانت علمية، أو سياسية، أو اجتماعية، فبدلا من سعي المرأة الغربية قديما للحصول على حقها المشروع في اكتساب المال، وتملكه بالطرق المشروعة؛ لأن من حقها الحصول على ملكيتها الخاصة بوصفها ذات كفاءة ولديها مهارات عملية كالرجل -ومن ثم فحرمانها من كسب المال وامتلاكه يعتبر تمييزًا مذمومًا على أساس الجنس-؛ نجد أن المطالبة بالتساوي العددي توقع في نفس المزلق تماما؛ لأنها تلغي معيار الكفاءة، أو تجعله هامشيا، وتفترض أن المعيار المركزي في القبول للعمل، أو المنصب هو الجنس، فلابد أن توظف امرأة في مقابل كل رجل حتى إذا كانت أقل كفاءة من غيرها من المتقدمين للوظيفة أو المرشحين للمنصب، والمفارقة أن هذه المطالبة نشأت في الأساس هروبًا من التمييز على أساس الجنس، فإذا بها تتحول إلى صورة أخرى من صوره[9].
-الانتقائية المنهجية في المطالبة بالحقوق؛ فبعض المطالبات بحقوق المرأة من النسويات لا يلتزمن بأصل، أو منهج في المطالبة بالحقوق، بل قد تنعكس نظرتهن للأمور بسهولة بحسب الحق الذي يطالبن به. ومن الأمثلة على ذلك ما قصَّته لوسي شوفي في كتابها خدعة الأنثوية الرهيبة عن إحدى النسويات الفرنسيات وتدعى إلييت أبيكاسيس حول نظرتها للأمومة؛ إذ ترى الأخيرة في كتاب لها بعنوان “حدث سعيد” أن غريزة الأمومة “خرافة عصرية”، وأن المرأة تصبح بأمومتها مجرد فراغ، أو عدم! بينما يمكنها تحقيق ذاتها إذا كانت بلا أطفال. ولكنها في حالة ما بعد الطلاق تقول: “لا يمكن فصل رضيع عن أمه، الحيوانات نفسها تعلم ذلك!”[10]. فهي تناهض الأمومة عند الحديث عن الحق في النجاح الفردي، وتحقيق الذات، وتتمسك بها عند الحديث عن الحق في حضانة الأطفال.
هذه هي بعض أصول الخلل في المطالبات الحالية بحقوق النساء، وهذه المطالَبات بالحقوق -الصالح منها والفاسد- تنطلق من أسس متعددة بسبب تعدد الرؤى الكونية للمطالبين بها، وهذه الأسس هي التي تشكل قناعات الأفراد، وتعتبر بمثابة الأصل الذي يُبنَى عليه ما بعده من أفكار وتصرفات، ولذلك فإنها قد لا تظهر كثيرًا على السطح أثناء النقاشات حول أفراد الحقوق المطالَب بها في حين أن الاختلاف عليها قد يغير مسار النقاش بالكلية، وقد يهدم حقوقا مزعومة، ويقيم مكانها غيرها.
فعلى سبيل المثال؛ المطالبة بحق المرأة في الإجهاض هي فرع مبني على أساس افتراض ملكية الجسد، وعلى أساس افتراض ضمان الحرية الفردية المطلقة. فإذا كانت هذه الأسس غير متفق عليها، فمن الصعب أن تتوفر القناعة بأفراد الحقوق المتفرعة عنها؛ وهذا أحد مكامن أهمية معرفة الأسس التي تبنى عليها المطالبة بالحقوق، وحيث إننا نتحدث على وجه الخصوص عن المرأة المسلمة، فلابد إذَن من الحديث عن بعض أسس الحقوق في الشريعة الإسلامية، وهذا ما سنناقشه في المحور التالي.
المحور الثالث: بعض الأسس التي تبنى عليها الحقوق في الشريعة الإسلامية
من رحمة الله سبحانه بعباده أن خلقهم، ولم يتركهم همَلًا يعيثون في الأرض فسادًا، ويظلم بعضهم بعضًا، ويأكل القوي منهم حق الضعيف. بل شرع لهم شرائع ليتبعوها، ورتَّب عليها أحكامًا ليلتزموها، ولما كانت شريعة الإسلام هي خاتمة الشرائع، شرَّف الله المسلمين بأن أتمها لهم، وأكملها، فقال سبحانه “ٱلۡیَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِینَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَیۡكُمۡ نِعۡمَتِی وَرَضِیتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَـٰمَ دِینࣰاۚ” [المائدة: 3].
وجعل لهم في أحكامها سبل الهداية لأرشد الأمور، كما يقول الإمام الشافعي: “فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة، إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها”[11]. وفي هذه الشريعة الغرَّاء، نجد لمسألة الحقوق أسسًا قد بُنِيَت عليها فيما يعرِّفه بعض الأصوليون، بـ “نظرية الحق في الإسلام”، وفيما يلي سنتعرف على معنى الحق، ومصدره في الشريعة، ثم نعرض بعض هذه الأسس.
تدور كلمة الحق في اللغة العربية حول معاني الثبوت، والوجوب، والنصيب المحدد. فمن ذلك قول الله تعالى: “لَقَدۡ حَقَّ ٱلۡقَوۡلُ عَلَىٰۤ أَكۡثَرِهِمۡ فَهُمۡ لَا یُؤۡمِنُونَ” [يس: 36] أي ثبت ووجب، وقوله: “وَلِلۡمُطَلَّقَـٰتِ مَتَـٰعُۢ بِٱلۡمَعۡرُوفِۖ حَقًّا عَلَى ٱلۡمُتَّقِینَ” [البقرة: 241] أي: واجبا عليهم. وقوله: “وَٱلَّذِینَ فِیۤ أَمۡوَ ٰلِهِمۡ حَقࣱّ مَّعۡلُومࣱ ٢٤ لِّلسَّاۤىِٕلِ وَٱلۡمَحۡرُومِ” [المعارج: 24، 25] أي: نصيبًا محددًا. ويعرفه الأستاذ مصطفى الزرقاء بقوله: الحق: هو اختصاص يقرر به الشرع سلطة، أو تكليفا.
وقد أشار في هذا التعريف إلى اختصاص صاحب الحق به، وأنه إما أن يكون سلطة على شيء أو شخص وهو (محل الحق)، وإما أن يكون تكليفا والتزاما[12].
وصاحب الحق في الحقوق الدينية هو الله سبحانه وتعالى، وفي المعاملات بين العباد هو الشخص الطبيعي (الإنسان)، أو الاعتباري؛ (كالشركات، والمؤسسات). كما أشار التعريف إلى مصدر الحق، ومنشئه وهو الشرع.
“فالحقوق في الإسلام منح إلهية تستند إلى المصادر التي تستنبط منها الأحكام الشرعية … فمنشأ الحق هو الله تعالى؛ إذ لا حاكم غيره ولا تشريع سوى ما شرعه”[13].
وهذا التعريف بمعنى الحق ومصدره يوجهنا إلى بعض الأسس المهمة التي تقوم عليها الحقوق بين الناس في الشريعة، ومن أهمها تلك الحقوق المتعلقة بالرجال والنساء، وهي كما يلي:
الأساس الأول: الحقوق في الشريعة مِنَحٌ إلهية وليست أمزجة بشرية؛ فمصدر الحق -كما سبق- هو الله سبحانه وتعالى، ولهذا فإن المسلم -رجلا كان أو امرأة- لابد أن يحقق مبدأ التسليم لما شرعه الله سبحانه وقضاه في حقه من محكم التنزيل، كما قال الله سبحانه: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِنࣲ وَلَا مُؤۡمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥۤ أَمۡرًا أَن یَكُونَ لَهُمُ ٱلۡخِیَرَةُ مِنۡ أَمۡرِهِمۡۗ وَمَن یَعۡصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدۡ ضَلَّ ضَلَـٰلࣰا مُّبِینࣰا﴾ [الأحزاب: 36]، ذلك أن حكم الله سبحانه هو حكم العليم بخلقه وبما يصلح دنياهم وأخراهم، كما قال سبحانه: “ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير” [الملك: 14].
ومن الخطأ أن نعترض على حق فرضه الله لأحد من الناس؛ لأن الحكم والتشريع لله وحده.
الأساس الثاني: الحقوق والواجبات وجهان لعملة واحدة؛ فمن الشائع في الشريعة أن يتعلق الحق الممنوح لأحد الأطراف بواجب آخر عليه من جهة أخرى، فالمرأة مثلا إذا تساوت بالرجل في صلة القرابة فإنها ترث نصف ما يرثه، ولكن من جهة أخرى فإن الرجل يجب عليه في الشريعة من الإنفاق ما لا يجب على المرأة؛ مثل: بذل المهر للزوجة، والنفقة على الأولاد، والسعي في كفاية الأقربين عند حاجتهم.
وكذلك فإن حق المرأة في المهر، والنفقة، والسكنى يقابله واجب آخر تقوم به، ولا يجب على الرجل، وهو طاعة زوجها في المعروف، وارتباطها بإذنه فيما يتعلق بحقوقه الشخصية، ولو تعلق الأمر ببعض العبادات، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “لا يحل لامرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه، ولا تأذَن في بيته إلا بإذنه”[14]. ومن الخطأ أن ننظر إلى الحقوق، ونتغافل عن الواجبات المقابلة لها.
الأساس الثالث: قانون الحقوق، والواجبات يقوم على أساس العموم، وليس الحالات الفردية؛ فالأحكام الشرعية، ومنها الحقوق، والواجبات تقوم على أساس العموم؛ والعادة محكَّمة كما قررته القاعدة الفقهية[15]، وذلك لا ينفي وجود حالات فردية قد تختلف في تفاصيلها عن الحكم العام، وتبقى لها مساحة أخرى من الاجتهاد فيها.
فعندما نقول مثلا أن الرجل عليه واجب الجهاد؛ فهو أقدر على ذلك من المرأة من حيث القوة البدنية، وأن أسر الرجل في حال الحرب أخف وطأة من حيث نتائجه من سبي المرأة، فهذا لا يعني أنه لا يمكن أن توجد امرأة أقوى بدنيا من بعض الرجال، أو أقدر على حماية عرضها من الرجل في بعض الأحيان، ولكن الحقوق والواجبات تقوم على أساس العموم، وهذه الحالات ليست هي المعتاد أو العام.
وفي هذا المعنى يقول الدكتور بشير بن مولود جحيش: “إن ثبوت الحكم الشرعي من مأخذه مؤذِنٌ بالسير به نحو تنزيله على مناطاته بالتحقيق؛ لأن الشريعة لم تنص على حكمِ كل جزئية على حِدَتِها، بل أتت في الغالب بقواعد كلية وعبارات مطلقة متناولة داخلها أعدادًا غير منحصرة من الجزئيات، والوقائع المتمايزة، والمتشابهة في نفس الوقت، وما على المجتهد إلا أن يبذل وسعه في تنزيل هذه المطلقات، والعمومات الحكمية على الأفعال، والأحداث التي لا تقع مطلقات بل معينة زمانا، ومكانا، وشخصًا”[16]. ولكن هذا لا ينفي وجود أصل عام غالب، ووجود استثناء، أو حالة فردية لا تصلح للتعميم.
الأساس الرابع: مبدأ العدل لا يتنافى مع مبدأ الفضل؛ فالفضل والتفضيل ثابت في الشريعة بما لا يخلُّ بأساس العدل، فقد قال الله سبحانه: “والله فضَّل بعضكم على بعض في الرزق” [النحل: 71]، وفي الصحيحين: “أنَّ نَاسًا مِن أَصْحَابِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ قالوا للنَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: يا رَسولَ اللهِ، ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بالأُجُورِ؛ يُصَلُّونَ كما نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كما نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ بفُضُولِ أَمْوَالِهِمْ، قالَ: أَوَليسَ قدْ جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ ما تَصَّدَّقُونَ؟ إنَّ بكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةً، وَأَمْرٌ بالمَعروفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عن مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ، وفي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، قالوا: يا رَسولَ اللهِ، أَيَأتي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكونُ له فِيهَا أَجْرٌ؟ قالَ: أَرَأَيْتُمْ لو وَضَعَهَا في حَرَامٍ، أَكانَ عليه فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذلكَ إذَا وَضَعَهَا في الحَلَالِ كانَ له أَجْرٌ.” وفي رِوايةٍ لمُسلمٍ عن أبي هُرَيرةَ رَضِي اللهُ عنه: «فرجَعَ فُقراءُ المهاجرينَ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم، فقالوا: سَمِعَ إخوانُنا أهلُ الأموالِ بما فعَلْنا، ففَعَلوا مِثلَه، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: ذلك فضْلُ اللهِ يُؤتيهِ مَن يَشاءُ»[17].
وقد أرشد الله سبحانه الرجال والنساء إلى سؤال الله من فضله دون تمني ما وهب لأحد الجنسين دون الآخر فقال سبحانه: ﴿وَلَا تَتَمَنَّوۡا۟ مَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بِهِۦ بَعۡضَكُمۡ عَلَىٰ بَعۡضࣲۚ لِّلرِّجَالِ نَصِیبࣱ مِّمَّا ٱكۡتَسَبُوا۟ۖ وَلِلنِّسَاۤءِ نَصِیبࣱ مِّمَّا ٱكۡتَسَبۡنَۚ وَسۡـَٔلُوا۟ ٱللَّهَ مِن فَضۡلِهِۦۤۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَیۡءٍ عَلِیمࣰا﴾ [النساء: 32]، قال الإمام الطبري رحمه الله: “فتأويل الكلام على هذا التأويل: ولا تتمنوا، أيها الرجال والنساء، الذي فضل الله به بعضكم على بعض من منازل الفضل ودرجات الخير، وليرضَ أحدكم بما قسم الله له من نصيب، ولكن سَلُوا الله من فضله”[18].
فالفضل الذي يهبه الله سبحانه لبعض خلقه لا يعني ظلم الآخرين -تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا- وإنما يجعل على من وقع لهم التفضيل مزيدًا من الشكر، والإحسان في العمل، وعلى الجميع أن يرضو بما قسمه الله لهم من كافة الأرزاق سواء كانت مادية، أو معنوية.
هذه بعض الأسس التي تقوم عليها الحقوق، والواجبات في الشريعة الإسلامية، ولكن في الوقت الحالي تتفاوت الخطابات الموجهة إلى المرأة المسلمة قربًا وبعدًا من هذه الأسس تفاوتًا كبيرًا، وهذا ما يشكل مجموعة من التحديات المعاصرة سنتعرض إليها في المحور التالي.
المحور الرابع: تحديات معاصرة
للخطاب الشرعي أثره العظيم في نفوس المسلمين والمسلمات، لأنه حديث عن الله سبحانه، وأوامره، ونواهيه، وبقدر تعظيم المسلمة لدينها، ورغبتها في طاعة ربها، فإنها قد تتخذ قرارات مصيرية في حياتها بناء على كلمة تسمعها من شيخ فقيه، أو داعية يخبرها بها أن الله يأمرها بشيء أو ينهاها عنه.
وهذا مما يعظِّم قدر الكلام في الدين، ويضع على عاتق الفقهاء، والدعاة مسؤولية كبيرة في الفتاوى، والتوجيهات الصادرة عنهم، وقد قال الله سبحانه: “قُلۡ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّیَ ٱلۡفَوَ ٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنۡهَا وَمَا بَطَنَ وَٱلۡإِثۡمَ وَٱلۡبَغۡیَ بِغَیۡرِ ٱلۡحَقِّ وَأَن تُشۡرِكُوا۟ بِٱللَّهِ مَا لَمۡ یُنَزِّلۡ بِهِۦ سُلۡطَـٰنࣰا وَأَن تَقُولُوا۟ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ” [الأعراف: 33].
وباستطلاع الخطاب الموجه إلى المرأة المسلمة في الوقت الراهن من حيث اتساقه مع محكمات الشريعة، واستيعابه لتحديات العصر نجد أننا أمام ثلاثة أطياف رئيسة:
الأول: يعتمد على ظواهر النصوص، ويتعامل مع كتب تراثنا الشريف المتمثلة في مؤلفات العلماء السابقين بوصفها معطيات جاهزة للاستخدام دون محاولة التماس الفروق الزمانية، والمكانية للفتوى أو الوعظ، أو دراسة الطريقة الملائمة في بيان المسائل، فضلا عن محاولة السير على خطى العلماء السابقين في الاجتهاد لفهم واقعهم، واستنباط مراد الله سبحانه في هذا الواقع.
وغالبا ما يعتمد هذا الطيف على ما أسميه “ثقافة العزل”، وأعني بذلك محاولة الحيلولة بين المرأة المسلمة وبين مستجدات الواقع فيما يتعلق بالمسائل الشرعية التي تختص بها دون الرجل، وكثيرًا ما يكون السبب في ذلك هو خشية على المرأة من الفتن، وأيضا: عزل الفكر عن محاولة الاجتهاد، والإشكال في هذه الطريقة ليس فقط في أن الالتزام بها ينتج نماذج مَقيتة من الجهل، وإنما أيضا في كونها لا تحقق الهدف منها بأن تثمر انعزالا حقيقيا؛ لأن الانفتاح العالمي الحالي جعل الانعزال عن مستجدات العصر في غاية الصعوبة على الرجال والنساء معًا.
الثاني: وهو على النقيض من الطيف الأول، يرى أن ظواهر النصوص الشرعية بحاجة دائمة إلى تأويل جديد يلائم ظروف العصر ومستجداته، وينظر إلى كتب التراث بوصفها ماضيًا يحسن تجاوزه إلا فيما يتلائم مع العصر الحالي.
ومن أبرز من يمثل هذا الطيف فيما يتعلق بالمسائل التي تختص بها النساء ما يعرف بـ “النسوية الإسلامية”[19]. وغالبا ما يعتمد هذا الطيف على ما أسميه “ثقافة الانتقاء”. وأعني بذلك غياب المنهج الذي تتأسس عليه الأقوال، ومحاولة إلصاق الأهواء الثقافية بالنصوص الشرعية. والإشكال في هذه الطريقة ليس فقط في غرابة النتائج النهائية التي قد تتوصل إليها بالنسبة لأصول الشريعة، وإنما أيضا في أن العلاقة فيها بين النص الشرعي، والحكم المستخلص لا تعدو كونها علاقة صورية لا يكون النص الشرعي فيها مقدسًا بقدر ما يكون وسيلة يتم التذرع بها للتوصل إلى هدف مسبق.
الثالث: وهو طيف يعتمد على النصوص الشرعية ويحافظ على قدسيتها في النظر والاستدلال، ويتعامل مع كتب العلماء السابقين بوصفها أدوات ثريَّة لفهم النصوص الشرعية والتفريق في الأحكام بين ما يتصف بالإحكام والقطعية وبين ما يقبل الاختلاف فيه ويتفاوت الفقهاء في الحكم عليه.
فلا يفتح عليه اختلاف المذاهب بابًا للتعصب، ولا بابًا مقابلا للعبثية والانتقاء، وإنما يفتح له بابًا للتجديد، والاجتهاد سيرًا على نهج الفقهاء، وفهمًا لأحوال العصر.
وهذه الطريقة تستدعي إلمامًا شرعيًّا عميقًا من المفتي، والداعية على حد سواء، كما تحتاج مزيدًا من الاستماع إلى مستجدات أحوال الناس، وهذه الطريقة هي الطريقة المرجوَّة في التعامل الشرعي المعاصر مع المسائل التي تخص حقوق المرأة المسلمة، وواجباتها ومع الخطاب الدعوي المعاصر الموجه إليها.
خاتمة..
حاولنا في هذه المقالة أن نرصد سؤال الحقوق من زاوية لا تعتمد على سرد أفراد الحقوق التي تتمتع بها المرأة المسلمة في ظل شريعة الإسلام، مع أنها حقوق كثيرة ربما تستعصي على الحصر. ولكن بدلا من ذلك، عرَّجنا على محاور مهمة تقوم عليها مسألة الحقوق أو تتأثر بها.
وما نخلص إليه في هذه المقالة هو أن حقوق المرأة المسلمة كثيرة ومتعددة، ولها أصولها الخاصة التي قد تختلف في المنطلقات عن دعوات المطالبة بحقوق المرأة التي نسمع بها في الخطابات النسوية المعاصرة. ذلك أن الأخيرة قد تتأسس في بعض الأحيان على مبادئ غير صحيحة منهجيًّا أو غير متوافقة مع الاعتقاد الديني والإسلامي.
كما أن الخطاب الشرعي له أثره الكبير على حياة المرأة المسلمة، وأن من المسائل التي تخص المرأة المسلمة من مستجدات العصر ما هو بحاجة إلى اجتهاد وتجديد منضبطين يأخذان بيدها إلى حياة طيبة في الدنيا والآخرة.
والله أعلم وأحكم وعليه قصد السبيل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] انظر: النسوية وما بعد النسوية، تحرير سارة جامبل، ترجمة: أحمد الشامي، صـ 51: 53، صـ 60 وما بعدها.
[2] انظر: حركات تحرير المرأة من المساواة إلى الجندر، مثنى الكردستاني، صـ 204 وما بعدها.
[3] انظر: عودة الحجاب، محمد إسماعيل المقدم صـ 1/ 112.
[4] الحركة النسوية العربية ووسائل الإعلام الجديد ص 220، 201.
[5] تاريخ ابن خلدون (1/ 184).
[6] انظر مقالة: ما هي مشكلة النسوية؟، مارك مانسون، ترجمة: زينب صلاح.
[7] للاستزادة انظر: الخطاب الوعظي: مراجعة نقدية لأساليب الخطاب ومضامينه، د. عبد الله السفياني، ص: 205: 212.
[8] انظر: أفريقيا المستهدفة، أوبيانوجو إيكيوتشا، ت: أسماء عبد الرزاق، ص: 128، 129، ص: 215، 216.
[9] انظر: جناية النسوية، ص 148.
[10] انظر: جناية النسوية، ص 156، 157.
[11] الرسالة ص: 48.
[12] انظر: الفقه الإسلامي وأدلته، وهبة الزحيلي 4/ 2838.
[13] انظر: السابق، 4/ 2840.
[14] البخاري (5195)، ومسلم (1026).
[15] انظر: شرح منظومة القواعد الفقهية للسعدي، حمد الحمد، (4/ 2).
[16] الاجتهاد التنزيلي ص: 26، جامع الكتب الإسلامية.
[17] أخرجه البخاري (843)، ومسلم (595).
[18] جامع البيان، (8/ 260).
[19] انظر: نقد أصول التأويل النسوي للقرآن الكريم: