4 سبتمبر, 2022
أ. زينب صلاح.
تتمتع المرأة المسلمة بكمال صفتها الإنسانية، وكمال أهليتها للحساب والجزاء، وقد أرشدتها شريعة الإسلام إلى اكتساب الفضائل، وحثتها على مكارم الأخلاق كما حثَّت الرجل سواء بسواء، مع إقرار أن الرجل والمرأة بينهما بعض الفوارق الجسدية، والنفسية المؤثرة، وبينهما كذلك مساحة كبيرة جداً من الاشتراك على هذين المستويين وغيرهما[1].
ويمكن اعتبار ذلك بمثابة مقدمة حول الجانب التصوري لإنسانية المرأة وأخلاقها، وفي هذا المقال نفتتح الحديث عن الجانب التطبيقي لما قدمناه من تصور، وذلك بالحديث عن الأدوار المشروعة للمرأة المسلمة ووسائل ممارستها.
وليس القصد من ذلك سرد تفاصيل تلك الأدوار، وإنما بيان بعض المحاور التي يمكن أن تسهم في الجواب عن سؤال الأدوار المشروعة للمرأة.
ذلك أن الأدوار تتشعب، وتختلف من بقعة إلى أخرى فضلا عن اختلافها من زمان إلى آخر، لكنها في كل مكان وزمان يجب أن تنطلق من منبع واحد، وهو ما أحكمه الشرع الشريف قرآنًا وسُنَّةً.
وإذا كنا قد قررنا مساحة من الاشتراك، ومساحة أخرى من الافتراق جسدياً ونفسياً، فإن الأدوار أيضا سيكون فيها اشتراك وافتراق تبعا لذلك، إما يقينًا وإما بغلبة الظن.
وفيما يلي نحاول تقديم رؤية متوازنة لأدوار المرأة المسلمة، وذلك من خلال المحاور الآتية:
تقدم معنا في مبحث التكليف أن الأصل في الخطاب الشرعي أنه عام للرجال والنساء إلا ما دل دليل على اختصاص أحد الجنسين به، وأن أعظم أدوار الرجل والمرأة هو عبادة الله سبحانه وتعالى، وهي الغاية التي لأجلها خُلِق الإنسان، والتي يجب على المسلم أن يمضي في حياته وفقا لما تقتضيه.
فهذا الدور الأعظم هو الأصل الذي تتفرع عليه الأدوار الاجتماعية للرجل والمرأة، وليس هناك انفكاك بينه وبين الدور الاجتماعي بحيث يقال إن الرجل والمرأة يشتركان في الدور التعبدي وينفصلان تماما في الدور الاجتماعي؛ فإن كافة مستويات الأدوار لا تنفك في تصور المسلم عن صورة من صور العبادة.
ولذلك فإن الأصل في الأدوار الاجتماعية هو العموم كما هو الحال في الأدوار التعبدية، قال الله تعالى: ﴿فَٱسۡتَجَابَ لَهُمۡ رَبُّهُمۡ أَنِّی لَاۤ أُضِیعُ عَمَلَ عَـٰمِلࣲ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰۖ بَعۡضُكُم مِّنۢ بَعۡضࣲۖ فَٱلَّذِینَ هَاجَرُوا۟ وَأُخۡرِجُوا۟ مِن دِیَـٰرِهِمۡ وَأُوذُوا۟ فِی سَبِیلِی وَقَـٰتَلُوا۟ وَقُتِلُوا۟ لَأُكَفِّرَنَّ عَنۡهُمۡ سَیِّـَٔاتِهِمۡ وَلَأُدۡخِلَنَّهُمۡ جَنَّـٰتࣲ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ ثَوَابࣰا مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِۚ وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسۡنُ ٱلثَّوَابِ﴾ [آل عمران ١٩٥]، وروي أنه قيل لرسول الله ﷺ:”ما بال الرجال يُذكرون ولا تذكر النساء في الهجرة”؟ فأنزل الله تبارك وتعالى في ذلك هذه الآية.[2]
وقال سبحانه: ﴿وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَٱلۡمُؤۡمِنَـٰتُ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِیَاۤءُ بَعۡضࣲۚ یَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَیَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَیُقِیمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَیُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَیُطِیعُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥۤ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ سَیَرۡحَمُهُمُ ٱللَّهُۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِیزٌ حَكِیمࣱ﴾ [التوبة ٧١].
فالخطاب عام في أصله للذكر والأنثى في مطلق العمل الصالح، وكذلك في الأعمال العظيمة؛ مثل: الهجرة، والصبر على الأذى، وبذل النفس في سبيل الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وغيرها من الأعمال الصالحة.
بيد أن مفردات الأعمال التي كلفت بها المرأة ليست مماثلة تماما لما كلف به الرجل، وإنما هناك بعض الاختلافات، وهذا ما سيتضح من خلال المحور الثاني.
إن عامل الذكورة والأنوثة ليس هامشيا فيما يتعلق بالأدوار، فرغم ما قررناه من أن الأصل هو الاشتراك بين الرجل والمرأة في الأدوار المختلفة، إلا أنه قد يكون لهذا العامل أثر في قيام الرجل أو المرأة ببعض الوظائف.
ومن ذلك تكليف الرجل بالجهاد، بينما نجد أنه حين سألت بعض النساء أن يجاهدن أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن جهادهن الحج[3]، وكذلك تكليف الرجل بالأذان، وشهود الجمع، وليس ذلك واجبا على المرأة[4]، وهذه اختلافات بين الرجل والمرأة في الأدوار.
وإذا أضيف إلى هذه الاختلافات حث المرأة على مزيد من الستر؛ مثل: أمرها بضرب الخمار، وتفضيل صلاتها في بيتها على صلاتها مع الرجال في المسجد، وصيانتها من الأخطار؛ كالنهي عن السفر بغير ذي محرم، وغير ذلك من الأوامر الشرعية، فإن في هذه الأمور مجتمعة دلالة على أن أدوار المرأة قد تتمايز عن أدوار الرجل.
ومن البعيد أن يقال إن هذه الأوامر ليس لها أي دلالة سوى تطبيقها الفعلي، بمعنى أن تكون بعض الأوامر الشرعية الخاصة بالمرأة -مثل؛ تكليف المرأة بمزيد من ستر الجسد، واستحباب صلاتها في بيتها عموما في مقابل الأحاديث الشريفة التي تحث الرجل حثاً شديداً على الصلاة في المسجد، وعدم تكليفها بالجهاد كالرجل مع كونه ذروة سنام الإسلام، ومن أفضل الأعمال الصالحة إلى غير ذلك من الأوامر والنواهي- ما هي إلا أوامر تعبدية محضة لا تدل على أمر المرأة بمزيد من الستر، والاقتصاد من جهتها في التعرض للأخطار بقدر المستطاع، والاقتصاد كذلك في مخالطة الرجال من غير حاجة -باعتبار أن الرجل مأمور بالخروج على خلافها، سواء لبعض العبادات كثيرة التكرار؛ مثل: الصلاة في المسجد، أو لكسب الرزق لوجوب النفقة عليه في حق من يعول-.
وكلما كانت الأدوار أكثر تعرضا للمخاطر، وتعلقاً بالقدرات البدنية، أو البروز في المحافل كلما كان دور المرأة فيها يتمايز عن دور الرجل، ومع ذلك؛ هذه الاختلافات لا تقصر دور المرأة على ما كان في منزلها فحسب، ولا تحرمها من المشاركة الاجتماعية في كافة الأحوال، بل إنها تحتاج فقط إلى نوع من الموازنة بين العمل لصالح النفس أو الأسرة داخل البيت (المجال الخاص)، والعمل لصالح النفس أو الأسرة خارج البيت (المجال العام)، وهذا ما سنوضحه في المحور التالي.
إن الأدوار التي يتمايز بها كل من الرجل والمرأة عن الآخر لا تتعارض مع أصل الاشتراك ولا تدافعه، ولا تقصر دور المرأة على دور واحد؛ مثل: بقائها في المنزل، وأعمال الخدمة فيه، وقيامها بحق زوجها وأولادها -إن كانت متزوجة ولها أولاد- فحسب.
وهذا ليس تقليلا من شأن هذه الأدوار، بل هي أدوار مهمة ولها أجور عظيمة، فعن عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا صلَّت المرأةُ خمسَها، وصامت شهرَها، وحفِظت فرجَها، وأطاعت زوجَها قيل لها ادخُلي الجنَّةَ من أيِّ أبوابِ الجنَّةِ شئتِ)[5]. وقال -صلى الله عليه وسلم-: (والمرأةُ راعيةٌ على بيتِ بَعْلِها وولدِه وهي مسؤولةٌ عنهم)[6].
وإنما نقول: إن هذه الأدوار هي بعض مسؤوليات المرأة وليست كلها، ولا شك أن الأفراد -سواء كانوا رجالا أو نساء- لا يقومون بكل الوظائف الممكنة، وإنما يختار كل واحد منها بحسب ظروفه، ومؤهلاته، واستعداداته، وهذا جانب مغفول عنه في كثير من الخطابات الموجهة إلى النساء المسلمات؛ فمن جهة يوجد طرف يسعى إلى قسمة كافة الأدوار داخل الأسرة وخارجها بين الرجل والمرأة بالتساوي دون اعتبار لظروف الأسرة ككل، وظروف أفرادها بحسب مؤهلات كل منهم واستعداداته، بحيث يعمل الرجل داخل المنزل كما يعمل خارجه وتعمل المرأة بالخارج كما تعمل بالداخل، ومن جهة أخرى؛ يوجد طرف يحصر صورة الرجل في الزوج الذي يعمل خارج المنزل، ولا يشارك في النشاطات الأسرية بوقته وجهده إلا نادرًا، ويحصر المرأة في نموذج المتزوجة ذات الزوج والأولاد، والتي يحتاجها بيتها، وزوجها، وأبناؤها إلى الدرجة التي تجعل مشاركتها في أي عمل خارج حدود الأسرة يشكل تهديدًا لدورها داخل الأسرة، وإن شاركت فلا أكثر من أن تكون مشاركتها هامشية.
ولكن المرأة ليست هذا النموذج فحسب، بل هناك الفتاة الشابة التي لا زوج لها، وهناك المطلقة، والأرملة، والشيخة الكبيرة، وهناك المتزوجة ممن لا ولد لها، وهناك المتزوجة التي لها زوج، ولكنها تُكفى كثيرا من أعمال الخدمة والرعاية بخادمة ومربية، إلى غير ذلك من الظروف المختلفة التي يتفرع عليها سير الحياة وتقسيم الأدوار فيها بترتيب مختلف.
وقد يكون الأصلح لامرأة بعينها هو أن تشارك في عمل صالح عام تنفع به نفسها، وأمتها من أن تمكث في بيتها فتسأل الناس قوتها، أو تكف عن خير كان بإمكانها المساهمة في بذله من أمر دينها أو دنياها.
ويتبين هذا بصورة جلية عند النظر في المجتمع النبوي، فمما يميز المجتمع النبوي أن نماذج المرأة فيه كانت متنوعة من حيث ظروف النساء فيه، ومن حيث أدوارهن على حد سواء، وهذا ما سنوضحه في المحور التالي.
لم تكن المرأة في المجتمع النبوي نموذجًا وحيدًا، تقتصر فيه على دورها في الأسرة؛ كزوجة، وأم فقط، بل كانت -ربما مع كونها زوجة أو أمًّا- تقوم ببعض الأدوار الأخرى بحسب حالها. فمن أمثلة السعي للتكسب الحلال، وكفاية النفس والعيال، أن امرأة لابن مسعود -رضي الله عنه- كانت تعمل وتنفق على زوجها وعيالها.
فعن رَيطةَ امرأةِ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ أمِّ ولدِه، وكانتِ امرأةً صَنَاعًا وليس لعبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ مالٌ، وكانت تُنفِقُ عليه وعلى ولدِه مِن ثمرةِ صنعتِها، وقالت: واللهِ لقد شغَلْتَني أنتَ وولدُك عن الصَّدقةِ فما أستطيعُ أنْ أتصدَّقَ معكم، فقال: ما أُحِبُّ -إنْ لم يكُنْ لك في ذلك أجرٌ – أنْ تفعَلي، فسأَل رسولَ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- هو وهي، فقالت: يا رسولَ اللهِ إنِّي امرأةٌ ولي صَنْعةٌ فأبيعُ منها، وليس لي، ولا لزوجي، ولا لولدي شيءٌ، وشغَلوني فلا أتصدَّقُ، فهل لي في النَّفقةِ عليهم مِن أجرٍ؟ فقال: (لكِ في ذلك أجرٌ ما أنفَقْتِ عليهم فأنفِقي عليهم)[7].
وكانت زينب بنت جحش -رضي الله عنها- امرأة صناعة اليد، تخزر وتتصدق من مالها، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: (وكانت زينبُ امرأةً صنَّاعةَ اليَدِ، تَدبَغُ، وتَخرِزُ، وتَصَدَّقُ به في سبيلِ اللهِ عزَّ وجلَّ)[8].
وسئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن امرأة في العدة تريد أن (تَجُدّ نخلها)، فعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: طُلِّقَتْ خَالَتِي، فأرَادَتْ أَنْ تَجُدَّ نَخْلَهَا، فَزَجَرَهَا رَجُلٌ أَنْ تَخْرُجَ، فأتَتِ النَّبيَّ -صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ-، فَقالَ: بَلَى، فَجُدِّي نَخْلَكِ؛ فإنَّكِ عَسَى أَنْ تَصَدَّقِي، أَوْ تَفْعَلِي مَعْرُوفًا)[9].
كما اختلفت أحوال خير النساء من حيث مستوى المشاركة في شؤون خدمة البيت، فكما كانت فاطمة الزهراء -رضي الله عنها- تعمل بيدها في بيتها، ومع زوجها، ولم يكن لها خادم، كان لبعض أمهات المؤمنين -رضي الله عنهن- من يخدمهن أحيانا، وكان لهن بعض الجواري[10]، وأهدى أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- خادما لأسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنها- لتكفى سياسة فرس زوجها بعدما كانت ترهق في أعمال الخدمة، قالت: “فكأنما أعتقني”[11].
واختلفت أحوال المرأة الاجتماعية، والمادية، وهذا يستتبع اختلافا في الأدوار، فكما وجدت على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- امرأة لم يجد خاطبها خاتما من حديد ليصدقها به، كان مهر زوجة لعبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- نواة من ذهب[12]، وليست هذه كتلك في طبيعة العيش وما يتطلبه من العمل.
واختلفت أحوال النساء من حيث دورهن العلمي والدعوي، فقد سألت بعض النساء النبي -صلى الله عليه وسلم- يوما يتعلمن فيه[13]، وكذلك نقل حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- كما كانت تفعل أمهات المؤمنين وغيرهن من الصحابيات؛ كأم عطية، وأسماء بنت عميس، وأم الدرداء، وأم سليم -رضي الله عنهن-، أو دورهن في الجهاد من نقل الجرحى، وتطبيبهم، وسقاية المجاهدين؛ مثل: أم المؤمنين عائشة، وسيدة النساء فاطمة، وغيرهن، أو حتى مباشرة النزال، والذب عن المسلمين في المعارك؛ مثل: أم عمارة -رضي الله عنها-.
فلم يكن دور المرأة في المجتمع النبوي قاصرًا دومًا على أعمال الخدمة، والرعاية في بيتها في كل الأحوال، ولا كان الأمر بالستر مانعًا لها من الخروج عند الحاجة؛ لأن ظروفها الاجتماعية واحتياجاتها المادية لم تكن واحدة، وكانت مشاركتها تتواءم، وقدراتِها على البذل من مال، أو جهد، أو تعليم، أو غير ذلك من أبواب الخير.
أما من حيث المبدأ؛ فإن المرأة مؤهلة أهلية تامة للمشاركة في الأدوار الاجتماعية الخاصة والعامة، ولكن مع الالتزام ببعض الضوابط كستر ما أمرت به من جسدها، وعدم الخضوع بالقول، واجتناب مخالطة الرجال من غير حاجة أو الخلوة معهم[14].
وقد كان ذلك يحدث في المجتمع النبوي حيث شاركت الصحابيات في شتى أنواع البذل بقدر المستطاع، وفي المحور التالي سنحاول الإشارة إلى بعض التغير الطارئ على أدوار النساء من بعد العهد النبوي.
شهدت أدوار المرأة المسلمة تقلبات متعددة من بعد العهد النبوي، ولم تسر عبر التاريخ الإسلامي على نمط واحد، ونأخذ مثالاً على ذلك بتقلب المشاركة النسائية المباشرة على الصعيد العلمي بما ذكرته الباحثة أسماء سيد في كتابها المرأة، ونقل المعرفة الدينية في الإسلام، فقد ذكرت أن دور المرأة في نقل الحديث شهد تراجعًا من أواخر القرن الأول الهجري حتى أوائل القرن الرابع الهجري، مع وجود قلة من المشاركات النسائية لنماذج بارزة؛ مثل: عمرة بنت عبد الرحمن، وحفصة بنت سيرين، واجتهدت الباحثة في إبراز الأسباب المحتملة لهذا التراجع، والتي كان من أبرزها صعوبة شروط رواية الحديث في هذا العصر وخصوصا شرط الترحال.
أما في القرن الرابع والخامس الهجريين، فقد عاد ظهور المرأة بعد انقطاع إلى هذا المجال بعد استقرار علم الحديث بوصفه علمًا متخصصًا، وبداية كتابة الحديث.
كما شهدت الفترة من بدايات القرن السادس الهجري مرورًا بالعصر المملوكي، وحتى بداية العصر العثماني ذروة ازدهار النساء المحدثات مع القبول الواسع للرواية المكتوبة، وكذلك مع نشأة بعض النساء في أسر علمية أسهمت بطريقة، أو بأخرى من تمكين نسائها من تحصيل العلم.
وهكذا شهدت المشاركات النسائية في هذا الجانب تقدمًا وتراجعًا من القرن الأول إلى القرن العاشر[15]، وقد شهد التاريخ الإسلامي أمثلة كثيرة لأعلام النساء عبر القرون في المجالات الأخرى، من عابدات، وعالمات، ومجاهدات، وفقيهات، وقارئات، ومحدثات حتى أفردت تراجمهن بالتأليف[16].
ولا شك أن الثقافات المختلفة -خصوصا مع اتساع رقعة الإسلام- كان لها أثر كبير على مستوى المشاركة في شتى المجالات من عصر إلى آخر ومن بلد إلى آخر، وهي تتفاوت تفاوتا كبيرا عند مقارنتها بما كان في العهد النبوي.
وقد أشار الدكتور محمد أكرم الندوي إلى بعض العوامل التي أثرت على مشاركات النساء العلمية في التأليف من صعوبة التنقل، وتعنت الأهل، وظروف الحياة الأسرية من الانشغال بالأزواج والأولاد، وأوصى بوصيتين للتعامل العادل مع أدوار المرأة: الأولى: قطع الصلة بالثقافات الموروثة الجاهلية عن المرأة، والثانية: أن تكون الأسوة في هذه المعاملة هي المدينة النبوية [في العهد النبوي] وليس غيرها[17]، وذلك لما ثبت من إسهامات مؤثرة للمرأة المسلمة في الواقع العلمي والعملي على مدار التاريخ، وفي العصر الحديث، شهدت أدوار المرأة انقلاباً كبيراً على كافة المستويات، وهذا ما سنتعرض له في المحور التالي.
لا يتعلق هذا المحور بأدوار المرأة المسلمة وحدها، بل إن التغير في أدوار المرأة في العصر الحديث هو تغير عالمي تأثر بعوامل متشابكة؛ من أبرزها بواكير الحركة النسوية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين[18].
فقد بدأت المرأة الأوروبية تطالب بحقوقها في التعليم والانتخاب، وتنتقد الظلم الثقافي، وتعبر عن طموحها في اكتساب الامتيازات التي يتمتع بها الرجل في ظل بيئة تحقِّر من شأنها أخلاقيا وعمليا.
وعلى أثر الكولونيالية والحروب العالمية، انفتح الشرق على الغرب، وتأثرت المرأة الشرقية -فيما تأثرت- بما عليه نظيرتها الغربية، خصوصا مع تقدم الصناعة وخروج المرأة للعمل. ولا يمكن القول أن هذا التأثر لم يبنَ إلا على التقليد، فإلى جانب أن هذا التأثر كان له بعد كولونيالي واضح أكبر من سعي المرأة نفسها، كانت المرأة الشرقية أيضا تعاني فعلا من مشكلات حقيقية كبيرة كالحرمان من التعليم، والحرمان من الميراث، والاستغراق في الخرافات، وتشوه الثقافات السائدة المحقرة للإناث وغيرها. وقد تسببت مثل هذه المشكلات في قصور أدوارها الاجتماعية العامة وإن وجدت بعض النماذج القليلة الجيدة. ولكن هذه المشكلات لم تعالَج بالطريقة الصحيحة من قِبَل رواد حركة تحرير المرأة التي تلقت أسس حلولها من بيئة غريبة وواقع مخالف هو واقع المرأة الأوروبية وبيئتها وأغفلت في كثير من منطلقاتها ونشاطاتها أسس شريعة الإسلام.
ومهما يكن من أمر، فقد بدأت المرأة الشرقية تحصل على حقها في التعليم، ثم تشارك عمليا في مختلف المجالات، وبدأ القبول الاجتماعي لحضورها يتزايد شيئا فشيئا، ولم ينفصل هذا عن زيادة الانفتاح على الغرب وماجريات النساء فيه حتى بعد استقلال كثير من البلدان العربية المستعمَرة، وخصوصا مع التقدم الهائل في وسائل التواصل، والتقدم الغربي عموماً علمياً واقتصادياً.
وبمرور الوقت، بدأت المشاركات الاجتماعية النسائية العامة تتزايد على كافة الأصعدة، ورغم المطالبات النسوية المستمرة حتى الآن بمزيد من المساواة في الفرص المختلفة بين الرجال والنساء، إلا أن الأدوار المختلفة المتاحة قانونيا لمشاركة المرأة فيها ببلداننا العربية والإسلامية صارت كثيرة جداً على مستوى التعليم، والتوظيف، والعمل التطوعي، والمشاركة السياسية والمدنية، ولكنها تواجه تحديات كثيرة.
تواجه المرأة المسلمة في زماننا تحديات كثيرة فيما يتعلق بأدوارها، أما عن دورها الأسري، فهي بين من يحقِّره وبين من يحبس إمكاناتها فيه، وأما عن مشاركتها في المجالات العامة، فأمامها كثير من الفرص المتاحة والتي ربما لم تكن متاحة لها في الماضي، وفي المقابل نشأت لها احتياجات مختلفة وكثيرة لم تكن موجودة في السابق، أو صارت احتياجاتها لبعض الأمور أكثر كثافة من الماضي على مستوى التعليم، والعمل، والتربية، والصحة، وغيرها.
ومن الخطأ أن نتعامل مع أدوار المرأة في هذا الواقع وفقاً لاحتياجات، وظروف امرأة عاشت منذ سبعة قرون مثلا، كما أن المرأة المسلمة في الوقت الحالي كذلك تتمتع بقدرات من شأنها أن تستثمر في أبواب النفع والخير، ولكنها تصطدم بأن كثيراً من الفرص لا تتاح لها بالطريقة الملائمة لقناعاتها، وظروفها فتصاب بالإحباط، كما أن خيار الانسحاب الكامل من المشاركة الاجتماعية العامة بات عسيراً في الوقت الحالي؛ لأن الإسهام في المشاركة العامة بالتعلم والتعليم، وأحيانا بالعمل صار مؤثرا تأثيرا إيجابيا في جودة مشاركتها داخل أسرتها.
فإننا مثلا نجد أن نظم التربية والتعليم تغيرت عما كانت عليه في السابق، وصارت أكثر تعقيداً وتفصيلاً، وأصبحا مواكبة هذا التغير والوعي به، ومعالجته بصورة صحيحة بحاجة إلى مزيد من الاطلاع، واكتساب المهارات، وهذا يقال في سائر النظم الاجتماعية، والاحتياجات الأسرية، فبعض ما كان منها منذ عشرين عاماً من الكماليات صار في الوقت الحالي من الأساسيات، فلابد من أخذ مثل هذه الاختلافات جميعها في الاعتبار عند معالجة أدوار النساء.
وما نخلص إليه في هذا المقال هو أن الشريعة لم تحصر أدوار المرأة في دور واحد، بل سمحت بأدوار متعددة في المجالات العامة والخاصة وفقا لضوابط تراعي الاختلاف بين الجنسين حين يكون مؤثرا، وأن جذوة النشاط في مختلف الأدوار النافعة، والتي كادت تخبو في بعض العصور والأمصار يمكن استعادتها من جديد بمزيد من الجد والعمل، خصوصاً مع تيسير سبل التواصل في الوقت الحالي، والمسؤولية التي تقع على كاهل المرأة المسلمة تتعلق بكيفية اختيارها للأدوار التي ستقوم بها انطلاقا من احتياجاتها النفسية، والمادية، وطموحها الشخصي، وكذا بنظرتها إلى الأدوار المتاحة لها عموماً، أو التي وجدت نفسها شبه ملزمة بالتعامل معها بضغط الواقع دون أن ينال هذا من رؤيتها، أو قيمها، أو سلوكها كمسلمة.
والله أعلم، وأحكم، وعليه قصد السبيل.
___________________________________________________________
[1] للتفصيل في ذلك يراجع مقالين هما: المرأة المسلمة وسؤال الخلق والتكليف، والمرأة المسلمة وسؤال الأخلاق، على موقع باحثات.
[2] انظر: تفسير الطبري (7/ 486).
[3] في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: اسْتَأْذَنْتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في الجِهَادِ، فَقالَ: جِهَادُكُنَّ الحَجُّ. (رقم الحديث: 2875).
[4] عن طارق بن شهاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الجُمُعَةُ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسلِمٍ فِي جَمَاعَةٍ إِلاَّ أَربَعَة : عَبدٌ مَملُوكٌ ، أَو امرَأَةٌ ، أَو صَبِيٌّ ، أَو مَرِيضٌ ) رواه أبو داود (1067) وقال النووي في “المجموع” (4/483) : إسناده صحيح على شرط الشيخين ، وقال ابن رجب في “فتح الباري” (5/327) : إسناده صحيح ، وقال ابن كثير في “إرشاد الفقيه” (1/190) : إسناده جيد ، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3111) .
[5] أخرجه أحمد (1661) واللفظ له، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (8805).
[6] أخرجه ابن حبان في صحيحه (4494) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
[7] صحيح ابن حبان (4247).
[8] أخرجه الحاكم في المستدرك، وقال: صحيح على شرط مسلم. (6960).
[9] رواه مسلم (1483).
[10] عن ميمونةَ، زوجِ النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ قالَت: كانت لي جاريةٌ فأعتقتُها، فدخلَ عليَّ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ، فأخبرتُهُ، فقالَ: آجرَكِ اللَّهُ، أما إنَّكِ لو كنتِ أعطيتِها أخوالَكِ كانَ أعظَمَ لأجرِكِ. [صححه الألباني في صحيح أبي داود (1690)]. وعن أم سلمة قالت: “كُنْتُ أَسْمَعُ النَّاسَ يَذْكُرُونَ الحَوْضَ، وَلَمْ أَسْمَعْ ذلكَ مِن رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَلَمَّا كانَ يَوْمًا مِن ذلكَ، وَالْجَارِيَةُ تَمْشُطُنِي، فَسَمِعْتُ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ يقولُ: أَيُّهَا النَّاسُ، فَقُلتُ لِلْجَارِيَةِ: اسْتَأْخِرِي عَنِّي، قالَتْ: إنَّما دَعَا الرِّجَالَ وَلَمْ يَدْعُ النِّسَاءَ، فَقُلتُ: إنِّي مِنَ النَّاسِ” [مسلم (2295)]. وكانت لعائشة رضي الله عنها بعض الجواري..
[11] عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: “تَزَوَّجَنِي الزُّبَيْرُ وما له في الأرْضِ مِن مالٍ ولا مَمْلُوكٍ، ولا شَيءٍ؛ غيرَ ناضِحٍ وغَيْرَ فَرَسِهِ، فَكُنْتُ أعْلِفُ فَرَسَهُ، وأَسْتَقِي الماءَ، وأَخْرِزُ غَرْبَهُ، وأَعْجِنُ، ولَمْ أكُنْ أُحْسِنُ أَخْبِزُ، وكانَ يَخْبِزُ جاراتٌ لي مِنَ الأنْصارِ، وكُنَّ نِسْوَةَ صِدْقٍ، وكُنْتُ أنْقُلُ النَّوَى مِن أرْضِ الزُّبَيْرِ الَّتي أقْطَعَهُ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ علَى رَأْسِي، وهي مِنِّي علَى ثُلُثَيْ فَرْسَخٍ، فَجِئْتُ يَوْمًا والنَّوَى علَى رَأْسِي، فَلَقِيتُ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ومعهُ نَفَرٌ مِنَ الأنْصارِ، فَدَعانِي، ثُمَّ قالَ: إخْ إخْ؛ لِيَحْمِلَنِي خَلْفَهُ، فاسْتَحْيَيْتُ أنْ أَسِيرَ مع الرِّجالِ، وذَكَرْتُ الزُّبَيْرَ وغَيْرَتَهُ، وكانَ أغْيَرَ النَّاسِ، فَعَرَفَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنِّي قَدِ اسْتَحْيَيْتُ، فَمَضَى، فَجِئْتُ الزُّبَيْرَ فَقُلتُ: لَقِيَنِي رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وعلَى رَأْسِي النَّوَى، ومعهُ نَفَرٌ مِن أصْحابِهِ، فأناخَ لِأرْكَبَ، فاسْتَحْيَيْتُ منه وعَرَفْتُ غَيْرَتَكَ، فقالَ: واللَّهِ لَحَمْلُكِ النَّوَى كانَ أشَدَّ عَلَيَّ مِن رُكُوبِكِ معهُ، قالَتْ: حتَّى أرْسَلَ إلَيَّ أبو بَكْرٍ بَعْدَ ذلكَ بخادِمٍ تَكْفِينِي سِياسَةَ الفَرَسِ، فَكَأنَّما أعْتَقَنِي.” [متفق عليه].
[12] صحيح مسلم (1427).
[13] عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قالتِ النِّسَاءُ للنبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: غَلَبَنَا عَلَيْكَ الرِّجَالُ، فَاجْعَلْ لَنَا يَوْمًا مِن نَفْسِكَ، فَوَعَدَهُنَّ يَوْمًا لَقِيَهُنَّ فِيهِ، فَوَعَظَهُنَّ وأَمَرَهُنَّ، فَكانَ فِيما قَالَ لهنَّ: ما مِنْكُنَّ امْرَأَةٌ تُقَدِّمُ ثَلَاثَةً مِن ولَدِهَا، إلَّا كانَ لَهَا حِجَابًا مِنَ النَّارِ فَقالتِ امْرَأَةٌ: واثْنَتَيْنِ؟ فَقَالَ: واثْنَتَيْنِ.). صحيح البخاري (101).
[14] انظر: أهلية المرأة في الشريعة الإسلامية، د. غيداء المصري، (1/ 233- 239).
[15] انظر: المرأة ونقل المعرفة الدينية في الإسلام، د. أسماء سيد، ترجمة: د. أحمد العدوي. الفصل الثاني والثالث.
[16] من أبرز المؤلفات في تراجم النساء المسلمات: الدر المنثور في طبقات ربات الخدور للعاملي، وموسوعة الوفاء في أسماء النساء للدكتور محمد أكرم الندوي. وقد ترجم الذهبي رحمه الله لكثير منهن في سير أعلام النبلاء.
[17] للاستزادة، يرجى الرجوع إلى المحاضرة النافعة: المرأة والعلم في الحضارة الإسلامية:
[18] انظر: مقالة “الموجة النسوية الأولى” لفاليري ساندرز، من كتاب: النسوية وما بعد النسوية، تحرير: سارة جامبل، ترجمة: د. أحمد الشامي. ص: (39: 54).